للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

زوجها يخرج للدعوة وهي غريبة الديار ويسيء إليها ويرغب بتطليقها

[السُّؤَالُ]

ـ[لا أخفي عليكم مدى الشقاء الذي أحياه، حتى أنني يئست أن يستجاب دعائي، أنا أم لأربعة أبناء، وزوجة لرجل لا أحبه، حاولت معه كثيراً، ولكن بلا فائدة، أشعر أن عقيدتي تأثرت كثيراً، لقد تحولت علاقتي بزوجي إلى سجال، وفي نهايته يعلن زوجي أن هذا الأمر ليس بواجب، ويخرج في سبيل الله لأن ذلك فرض عين، لقد أصبحت حياتنا سلسلة من حلقات الجبر، وسوء المعاملة، ليس معي فقط، بل إنه يجبر أبناءنا الذين لم يبلغوا بعد على صيام النفل، لقد صبرت حتى الثمالة ١١ عاماً، بلا حياة مستقرة، بعيدة عن وطني، لقد حصل جميع أبنائي على الجنسية السعودية، ولكنه يرفض أن أحصل عليها، الحياة أصبحت بلا معنى، لقد قرر أن يذهب بي إلى وطني، ثم يفكر فيما سيفعله معي، كل ما يشغل تفكيري هو ماذا أفعل إن مات زوجي، من سيتزوج أرملة مثلي؟ من سيحيط أبنائي بالحب والرعاية؟ كيف أنفق عليهم وأنا ليس لي أخوات، وأخي لا يزال على كفره؟ أبي وأمي مسلمان، ولكنهما غير ملتزمين، وأهل زوجي يعيشون في الولايات المتحدة حياة غربية تماماً، وزوجي ذو الأخلاق السيئة، القوَّام، الصوَّام، يدفعني يوماً بعد يوم إلى مزيد من الخلافات، واللعنات، والتلفظ بكلمات الكفر! كيف أنقذ نفسي؟ وماذا أفعل؟ حتى ما أتكسبه من مال قليل يكره أن يظل معي، إنني لا زلت أحبه، ولكني في قلق بالغ ماذا إذا توفى عني؟ .]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

بخصوص انشغال الزوج بالدعوة، وإهماله لأسرته: فقد ذكرنا الكلام حوله في أجوبة الأسئلة (٦٩١٣) و (٣٠٤٣) و (٢٣٤٨١) ، فلتنظر.

ثانياً:

جاء في أول سؤالكِ قولكِ " حتى إنني يئست أن يستجاب دعائي "! وهذا خطأ، ومخالف لشرع الله، والمسلم إما أن يقبل الله تعالى دعاءه، أو لا يقبله، فإن لم يقبله فليفتش في سبب ذلك في نفسه، فقد يوجد عنده من موانع الاستجابة ما يمنع من قبول دعائه، كأكل الحرام، ولبس الحرام، والدعاء بالإثم.

وانظر تفصيل ذلك بتمامه وكماله في جواب السؤال رقم: (٥١١٣) .

وإذا قبل الرب تعالى دعاء عبده: فإن الاستجابة ليست هي فقط تحقيق مطلوبه، بل ويضاف إليه أمران: ادخار أجر دعائه ثواباً ليوم الحساب، وصرف السوء عنه بقدر دعائه.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ) .

رواه أحمد (١٠٧٤٩) ، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (١٦٣٣) .

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من اليأس من الاستجابة، وبيَّن أنه لا يستجاب لمثل ذلك العبد؛ لأن يأسه يؤدي به إلى ترك الدعاء، وإنما يستجاب لمن كرَّر وألَّح على الله، وليست الاستجابة للمانِّ بدعائه على ربه، وهو الغني عن خلقه عز وجل.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) .

رواه البخاري (٥٩٨١) ومسلم (٢٧٣٥) - واللفظ له -.

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:

وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أُحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة ... .

دعوة المؤمن لا ترد وأنها إما أن تُعجَّل له الإجابة، وإما أن تدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يُدَّخر له في الآخرة خير مما سأل، فأشار الداودي إلى ذلك، وإلى ذلك أشار ابن الجوزي رحمه الله بقوله: " اعلم أن دعاء المؤمن لا يردُّ غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة، أو يعوَّض بما هو أولى له عاجلاً، أو آجلاً فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه؛ فإنه متعبد بالدعاء، كما هو متعبد بالتسليم، والتفويض ".

" فتح الباري " (١١ / ١٤١) .

ثالثاً:

لا ندري كيف نصف أولئك الأزواج الذين لا يؤدون ما أوجب الله عليهم من العناية بزوجاتهم وبنيهم، ولا ندري كيف فهموا الإسلام الذي يدعون الناس للالتزام به، فقد أوصى الله تعالى الأزواج بزوجاتهم وأولادهم خيراً، وجعلهم أمانة في عنقه، وأوجب عليهم النصح لهم، ووقايتهم من عذاب السعير، وهم أولى بالدعوة من غيرهم، ومن أوائل ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الشعراء/ ٢١٤، وقد استجاب نبيه صلى الله عليه وسلم لذلك الأمر، فدعا أبا طالب عمَّه للإسلام، ولم يزل يدعوه حتى في مرض موته، ثم جمع عمه العباس، وعمته صفية، وابنته فاطمة، فدعاهم، ونصحهم، وذكَّرهم بيوم الحساب، وأنه لا يغني عنهم شيئاً، وكذا فعل مع خديجة زوجته رضي الله عنها، فكانت أول من أسلم من أهل الأرض جميعاً.

إن الداعية إلى الله يجب أن يكون مخلصاً في نيته، ومتقناً في عمله، ومن الإخلاص: أن ينوي بدعوته وجه الله تعالى، ومن الإتقان: أن يبدأ بأهل بيته فيقدمهم على غيرهم، ولا يفرِّط في نصحهم وإرشادهم، ولا ينبغي له إغفال ذلك، ومعارضته بدعوة الناس، أو الانشغال بأمور الدنيا.

وإذا كان عنده زوجة ترعى شئون بيته، وأولاده: فإنها تؤدي معه رسالة بالغة الأهمية، وتقوم بإعانته على أمرٍ جلل، فليحفظ هذا لها، وهي إن كانت غريبة في بيئته: فإنه يجب عليه أن يوليها عناية خاصة، وأن يرحم ضعفها، وغربتها، وأن لا يتسلط عليها قهراً، وجبروتاً.

فليس عندنا إلا الإنكار على زوجك أخطاءه، والنصح لك بالصبر والدعاء، فعسى الله أن يبدِّل الحال إلى أحسن منه، وإياكِ أن يتسرب اليأس إلى قلبك، واعلمي أن الله تعالى أرحم بخلقه من الأم على ولدها، فإن حصل لك طلاق: فليست هذه نهاية الدنيا، وليس الزوج هو الذي يرزقك، ويرزق أولادك، والله تعالى حيُّ لا يموت، وخزائنه تعالى لا تنفد، وقد أخبرنا ربنا تعالى أنه قد يكون مع الطلاق الفرج والسعة من الرزق، فقال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) النساء/ ١٣٠.

قال الطبري - رحمه الله -: " (يُغْنِ الله كلا من سعته) يقول: يُغن الله الزوجَ والمرأةَ المطلقة من سعة فضله، أما هذه: فبزوجٍ هو أصلح لها من المطلِّق الأول، أو برزق أوسع، وعصمة، وأما هذا: فبرزقٍ واسع، وزوجة هي أصلح له من المطلقة، أو عفة.

(وكان الله واسعاً) يعني: وكان الله واسعاً لهما، في رزقه إياهما، وغيرهما من خلقه.

(حكيماً) فيما قضى بينه وبينها من الفرقة، والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها، وفي غير ذلك من أحكامه، وتدبيره، وقضاياه في خلقه " انتهى.

" تفسير الطبري " (٩ / ٢٩٤) .

وتغفل كثير من النساء عن هذه الحقيقة، فتظن أن طلاقها سيكون معه فقرها، وهو خلل في الاعتقاد يجب أن تتنزه عنه، كما أنه مخالف للواقع، وكما أن الغنى يكون بالنكاح: فإنه يكون كذلك مع الطلاق.

رابعاً:

ما أقلقنا حقّاً وأزعجنا هو خاتمة رسالتك، حيث ذكرتِ أن زوجك يدفعك إلى التلفظ بكلمات الكفر! : فإن كان هذا مجرد خشية من وقوع ذلك منكِ: فهو أمرٌ خطير لا يحل لك السكوت عليه، ويجب عليك أنت المبادرة للتخلص من هذا الزواج الذي من المحتمل أن يتسبب لك في التلفظ بالكفر، وأما إن كنتِ تخبرين عن واقعٍ حصل، وأنكِ بالفعل قد تلفظتِ بكلمة الكفر: فاعلمي أنك وقعت في شرٍّ وسوء ومنكر بما لا يمكن مقارنته بما وقع فيه زوجكِ، فكلمة الكفر التي تُنطق من غير إكراه ولا خطأ: تُخرج صاحبها من الإسلام، وتخلده في نار جهنم إن مات على ذلك، ولم يردع نفسه بتوبة ودخول في الإسلام من جديد، فاحذري أشد الحذر إن لم يقع منك ذلك، وإن وقع فاعلمي أنها ردة، وأن الأعمال الصالحة تُحبط بها، وأن عقد الزواج مفسوخ، إلا أن تتوبي إلى الله تعالى بالدخول في الإسلام من جديد.

وإن أخشى ما نخشاه أن تكوني قد أُتِيت من قبل نفسك، فإن المرأة التي يستدرجها الشيطان إلى مثل ذلك، أو تدفعها مشاكل الحياة إلى ألفاظ الكفر، ربما رأى منها زوجها من ضعف الدين، وقلة مبالاتها به: ما يزهده فيها، ويبغض إليه عشرتها.

وانظري - في تفصيل ذلك -: (٤٢٥٠٥) و (٦٥٥٥١) و (١٠٣٠٨٢) .

وخلاصة نصيحتنا لك يا أمة الله: أن تهتمي أنت ـ أولا، وقبل كل شيء ـ بإصلاح ما اختل من أمر دينك، وبناء ما وهى منه، قبل أن تندمي، ساعة لا ينفع الندم:

قال يونس بن جبير رحمه الله: شيعنا جندب بن عبد الله، فلما بلغنا حصن المكاتب قلنا له: أوصنا.

قال: (أوصيكم بتقوى الله، والقران؛ فانه نور الليل المظلم، وهدى النهار؛ فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، وإن عرض بلاء: فقدم مالك دون نفسك، فان تجاوز البلاء: فقدم مالك ونفسك دون دينك؛ فان المحروب من حُرِب دينه، والمسلوب من سلب دينه؛ إنه لا غنى بعد النار، ولا فاقة بعد الجنة، وإن النار لا يفك أسيرها، ولا يستغني فقيرها) رواه الإمام أحمد في الزهد (٢٠٢) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (٢٠٤٨) والبيهقي في شعب الإيمان (٣/٤٠٢ـ ط الرشد) ، وإسناده صحيح.

ونذكرك ـ أخيرا ـ بقول الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) مريم/٩٦.

قال قتادة رحمه الله: " إي والله في قلوب أهل الإيمان، ذُكر لنا أن هَرِم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم ".

رواه الطبري في تفسيره (١٨/٢٦٢) وسنده صحيح إلى قتادة.

قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:

" هذا من نعمه على عباده، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح: ن وعدهم أنه يجعل لهم ودا، أي: محبة وودادا في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب ود تيسر لهم كثير من أمورهم، وحصل لهم من الخيرات والدعوات والإرشاد والقبول والإمامة ما حصل، ولهذا ورد في الحديث الصحيح: " إن الله إذا أحب عبدا، نادى جبريل: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: (إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نادى جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أهل السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ) [متفق عليه] ، وإنما جعل الله لهم ودا لأنهم ودوه، فوددهم إلى أوليائه وأحبابه " انتهى. تفسير السعدي (٥٠١) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>