للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

معنى اللمم

[السُّؤَالُ]

ـ[قال الله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) ما معنى اللمم في هذه الآية الكريمة؟.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

هذه الآية الكريمة في سورة النجم، وهي تذكر صفات المحسنين الذين هم أهل الجنة، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) النجم/٣١، ٣٢.

وقد اختلف المفسرون والأئمة في معنى اللمم على أقوال، منها:

١- روي عن جماعة من السلف: أنه الإلمام بالذنب مرة، ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيراً، قال البغوي: هذا قول أبي هريرة، ومجاهد، والحسن، ورواية عن ابن عباس.

٢- وقال سعيد بن المسيب: هو ما ألم بالقلب. أي ما خطر عليه.

٣- وقال الحسين بن الفضل: "اللمم": النظر من غير تعمد، فهو مغفور، فإن أعاد اللمم: فليس بلمم، وهو ذنب.

٤- وذهبت طائفة إلى أن "اللمم": ما فعلوه في الجاهلية قبل إسلامهم، فالله لا يؤاخذهم به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: أنتم بالأمس كنتم تعملون معنا، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم.

٥- وذهب جمهور العلماء إلى أن "اللمم" هو صغائر الذنوب.

روى البخاري (٦٢٤٣) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ) .

قَالَ الرَّاغِب: اللَّمَم مُقَارَفَة الْمَعْصِيَة، وَيُعَبَّر بِهِ عَنْ الصَّغِيرَة.

وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِاللَّمَمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه فِي قَوْله تَعَالَى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ) وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي الآيَة الأُخْرَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فَيُؤْخَذ مِنْ الآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّمَم مِنْ الصَّغَائِر وَأَنَّهُ يُكَفَّر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر اهـ.

وذكر النووي رحمه الله كلام الخطابي ثم قال:

" هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي تَفْسِير اللَّمَم , وَقِيلَ: أَنْ يُلِمّ بِالشَّيْءِ وَلا يَفْعَلهُ , وَقِيلَ: الْمَيْل إِلَى الذَّنْب. وَلا يُصِرّ عَلَيْهِ , وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَأَصْل اللَّمَم وَالإِلْمَام الْمَيْل إِلَى الشَّيْء وَطَلَبَهُ مِنْ غَيْر مُدَاوَمَة. وَاَللَّه أَعْلَم " اهـ.

قال الحافظ:

وَمُحَصَّل كَلَام اِبْن عَبَّاس تَخْصِيصه بِبَعْضِهَا (يعني: تخصيص اللمم ببعض الذنوب الصغار) , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَة اللَّمَم أَوْ فِي حُكْم اللَّمَم اهـ.

وروى الترمذي (٣٢٨٤) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ) . قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلَمَّا) . صححه الألباني في صحيح الترمذي.

قال في تحفة الأحوذي:

اخْتَلَفَت أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ. . وَهو الظَّاهِرُ الرَّاجِحُ اهـ.

وقال القرطبي رحمه الله:

"إلا اللمم" وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه اهـ.

وقال ابن جرير:

" وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال "إلا" بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجه معنى الكلام (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فإن ذلك معفو لهم عنه، وذلك عندي نظير قوله جل ثناؤه: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) النساء/٣١. فوعد جل ثناؤه باجتناب الكبائر، العفو عما دونها من السيئات، وهو اللمم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه، والله جل ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه " اهـ

وقد ورد في السنة الصحيحة إطلاق اللمم على من يعمل الذنوب المرة ونحوها، ولم يداوم على ذلك.

وهو موافق لمعنى اللمم في اللغة.

ففي حديث الإفك:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّه) رواه البخاري (٢٦٦١) ومسلم (٢٧٧٠) .

قال النووي: مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْت فَعَلْت ذَنْبًا وَلَيْسَ ذَلِكَ لَك بِعَادَةٍ , وَهَذَا أَصْل اللَّمَم اهـ.

وقد جمع السعدي رحمه الله في تفسيره بين المعنيين، فقال (ص ٩٧٦) :

" (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار من الزنا وشرب الخمر وأكل الربا والقتل ونحو ذلك من الذنوب العظيمة (إِلا اللَّمَمَ) وهو الذنوب الصغار التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يُلِم العبد بها المرة بعد المرة على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجاً للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) " اهـ.

وليس معنى الآية الإذن لهم في ارتكاب (اللمم) وهي الصغائر، بل المعنى: أنهم يجتنبون الكبائر، ثم ما وقع منهم من الصغائر - على سبيل الزلة والخطأ - فإنه يقع مغفوراً لهم باجتنابهم الكبائر.

والله تعالى أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>