للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل صح حديث: (لقد جئتكم بالذبح) ، وما توجيه معناه؟

[السُّؤَالُ]

ـ[هل يمكن من فضلك أن تعلق لي على هذا الحديث وعلى إسناده؟ هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش إنه جاءهم ليذبحهم؟ وكيف لنا أن نفهم هذا الحديث؟ وما هو معنى الحديث؟ أرجو منكم أن تشرحوا لأنني أجد الحديث محيراً جداً بالنسبة إلي. ونص الحديث يقول: (لقد جئتكم بالذبح) وقد ترجم الحديث من قبل الشيخ: عبد السلام الشامي: قال يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله فيما كانت تظهر من عداوته؟ قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فقال: تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح؛ فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأن على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً. فانصرف صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا - لِما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم – قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك. قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه. قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دونه يقول - وهو يبكي -: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط. رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

هذا الحديث رواه أحمد في " المسند " (١١/٦٠٩) طبعة مؤسسة الرسالة من رواية الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحسنه المحققون، والشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند أيضا، وحسنه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (٦/١٩) ، وكذا الشيخ الألباني في " صحيح الموارد " (١٤٠٣) .

وجاء في رواية الإمام البخاري (٣٦٧٨) لأصل القصة أن عروة بن الزبير رحمه الله قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) .

وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أما والله لا تنتهوا حتى يحل بكم عقابه عاجلاً. – وبعد ذلك قال لأصحابه صلى الله عليه وسلم -: أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه، ومتم كلمته، وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون ممن يذبح الله بأيديكم عاجلاً) .

عزاه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (٧/١٦٨) للزبير بن بكار، والدارقطني في " الأفراد " وأشار إلى ضعف هذه الرواية.

وانظر "فتح الباري" (٧/١٦٦-١٧٠) للوقوف على روايات الحديث.

وهذا اللفظ: (جئتكم بالذبح) له معنى صحيح بلا شك، ولا ينبغي أن يثير الحيرة في نفس السائل ولا في نفس أي عاقل، فالمقصود بالذبح هم أشخاص معينون محدودون، وهم أولئك الذين يصرون على الكفر بالله، وعلى حرب الإسلام وأهله، واضطهاد المستضعفين، والتسلط على النساء والشيوخ من المؤمنين، لفتنتهم عن دينهم، وفرض مبادئهم وأفكارهم بالدم والتعذيب والتنكيل، هؤلاء هم الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شر تقتيل، طعنوا سمية زوجة ياسر في عفتها، وقتلوا ياسر في شيخوخته، وعذبوا بلالاً بالرمضاء، وهموا بقتل خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتركوا أسلوباً من أساليب التعذيب والظلم إلا مارسوه على هذه الفئة المؤمنة، حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى الحبشة، مكفكفين جراحهم، ومتحملين آلامهم، لعلهم يجدون لدى ملك الحبشة طعم الراحة والأمان.

هذا بعض ما فعلته هذه الفئة من مجرمي كفار قريش مع المؤمنين، أما عن تطاولهم على رب العباد فذلك شأن آخر، حكاه الله عنهم في عشرات الآيات في القرآن الكريم. ألا يستحق هؤلاء – بعدئذ - القتل دفعا لشرهم، وتخليصا للعباد من آذاهم.

أليس من الحكمة والعقل مجابهتهم – في بعض الأحيان – بالقوة والتهديد والوعيد، وذلك حين يطفح الكيل من مكرهم وظلمهم؟

لماذا يحتار العاقل في قبول تهديد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالعقوبة العاجلة من الله عز وجل، وهم أجدر بها، وأحق بها من قوم عاد وثمود وسائر الأنبياء الذين عرفنا عدوانهم على الأنبياء والمؤمنين في القرآن الكريم؟!

ألهذا الحد ينسى العاقل ما فعله هؤلاء المجرمون بالمؤمنين المستعضفين، وينسى أيام العذاب والهوان التي ذاقوها مما يتقطع له قلب كل إنسان وهو يقرأ صفحاتها، ثم يتعاطف مع الجلادين – وهم صناديد كفار قريش – لأن النبي صلى الله عليه وسلم هددهم بالقتل والذبح مرة من المرات.

أهكذا تقاس الأمور في موازين العقول؟!

وإذا لبَّس الحاقدون على الناس، فاجتزؤوا هذه الكلمة من سياقها، وأرادوا أن يظهروا النبي صلى الله عليه وسلم سفاكاً للدماء، محباً للموت والقتل، فلا يجوز أن ينطلي ذلك على العقلاء من المسلمين ومن غير المسلمين، بل الواجب التعامل مع هذه الحادثة، وكذلك كل حادثة بمقياسين مهمين رئيسيين:

١- السياق الذي جاءت به، ونوع المخاطبين بها، والحادثة التي تفسرها وتبين المقصود منها.

٢- النظر في جميع النصوص المتعلقة بالموضوع، والتي من خلالها يمكن الوصول إلى فهم نظرة الإسلام إلى المسألة، وليس من خلال نص واحد فقط.

ومن لم يفعل ذلك ضلَّ وتاه، وباع عقله وفكره لكل ناعق بشبهة، ولكل من يحسن الوسوسة بالشر والفساد.

ونقول أيضاً:

كيف تُصَدَّقُ دعوى مَن يدَّعي أن الإسلام جاء بقتل من لم يتبعه مطلقاً، وقد علم الناس جميعاً علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن أهل مكة بعد أذاهم الشديد له فجاءه ملك الجبال ليطبق عليهم الأخشبين (جبلان بمكة) ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) رواه البخاري (٣٢٣١) ومسلم (١٧٩٥) ، وعفا أيضاً صلى الله عليه وسلم عن كفار قريش الذين ظلموا المؤمنين وأكلوا أموالهم بعد فتح مكة، بل وأكرم بعض كبرائهم رجاء حسن إسلامهم، وذلك حين قال – يوم فتح مكة -: (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ) رواه مسلم (٣٣١) ؟!

كيف تُصدَّق هذه الدعوى وقد شرع الله تعالى لنا قبول الجزية من أهل الأديان الأخرى، والموافقة على بقائهم في حماية دولة الإسلام وكفالتها؟!

كيف تُصدَّق هذه الدعوى وقد علمنا يقيناً كيف قبل النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع يهود المدينة، وتعايش معهم رجاء أن يحفظوا العهد ولا يخونوا، ولم يقاتل أحداً منهم حتى كانوا هم البادئين بالغدر والخيانة؟!!

ألم يقل رب العزة شارحاً مقاصد البعثة والرسالة في كلمة واحدة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/١٠٧.؟!!

بل قال عز وجل أيضاً: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الأنعام/١٤٧.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:

"يقول تعالى: فإن كذّبك - يا محمد - مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم، فقل: (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) ، وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين " انتهى.

" تفسير القرآن العظيم " (٣/٣٥٧)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ! قَالَ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً) رواه مسلم (٢٥٩٩) .

نرجو أن يكون في هذه الكلمات ذكرى نافعة يزيل الله بها عن الأخ السائل حيرته في معنى هذا الحديث.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>