للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تقسيم الأحاديث إلى آحاد ومتواتر لا يعني التشكيك في صحتها

[السُّؤَالُ]

ـ[اعتنقت الإسلام والحمد لله، وبسبب أني أدرس التأريخ والحديث في جامعتي، فأنا مهتمة بعلم الحديث، وحسب علمي أن الأحاديث إما صحيح أو ضعيف، ولكني اكتشفت أن هناك المتواتر والآحاد، وأن الأحاديث المتواترة قليلة جدًّا، قد لا تصل إلى عدد مائة حديث، وأن هذه الأحاديث هي المقطوع بصحتها مائة بالمائة، أما ما سواها فليس هناك نوع مقطوع بصحته مائة بالمائة، بما في ذلك الأحاديث الصحيحة، فهل هذا صحيح أم لا؟ وإذا كان الأمر هكذا فما هي هذه الأحاديث المتواترة، ولماذا لا يُؤكد عليها أكثر من غيرها؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

بداية فالشكر لله عز وجل أن أنعم عليك بنعمة الإسلام وهداية الإيمان، وأن ألهمك سبحانه سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، فالإسلام دين الأخلاق والقيم، كما هو دين الشريعة العادلة والأحكام التي تُصلِح أحوالَ الناس، وهو الدين الذي أكمل الله به الرسالات السابقة، يمتاز أتباعُه بأنهم يؤمنون بجميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهنيئا لك هذا الباب من السعادة في الدنيا والآخرة، واسألي الله دائما الثبات والتوفيق.

ثم نرحب بك معنا في موقعنا، وسوف نكون سعداء إذا أرسلت إلينا بما عندك من أسئلة واستفسارات، فنرجو ألا تترددي في الكتابة بما عندك.

ثانيا:

وفي شأن علم الحديث الشريف، فهو علم غاية في الدقة، غاية في الإحكام، دُوِّنَت فيه آلاف الصفحات، وبُذلت في سبيله الأرواح والأموال والأعمار، حتى استطاع المسلمون الذين أحبوا نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينقلوا أقواله وأفعاله وصفاته وأحواله لجميع العصور من بعدهم، حتى نقلوا ضحكاته وسكتاته، ونقلوا قيامه وقعوده، ونومه ويقظته، نقلوا تفاصيل كثيرة عن هذا النبي العظيم.

ثالثا:

أما عن تحديد زمن كتابة الأحاديث النبوية، فهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس بسبب تحريف بعض المستشرقين للحقائق التاريخية، فقد ثبت بالأدلة القطعية أن كتابة الأحاديث وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته، وأن الذي تأخر هو جمعها كلها في كتاب واحد، وترتيبها على الأبواب، والعناية بتأليفها وتصنيفها، والأدلة على ذلك كثيرة جدا، لا يُنكِرها إلا جاحد معاند يبتغي تشكيك المسلمين بدينهم، أو جاهلٌ لا يعرف أن كتابة السنة وقعت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تدوينها – بمعنى تأليف الكتب الكبار في جمعها وتصنيفها والعناية بها – هو الذي تأخر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:

(كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ) . رواه أبو داود (٣٦٤٦) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

فانظري كيف أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب كل شيء يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جمع من الأحاديث كتابا كبيرا كان يسمى " الصحيفة الصادقة "، وهي من أشهر الصحف الحديثية المكتوبة في العصر النبوي، فهناك صحف – أي كتب – كثيرة كان الصحابة يكتبون فيها الأحاديث التي يسمعونها من النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير منها محفوظ بنصه إلى اليوم، وما تَبَقَّى رواه لنا الأئمة الكبار كالبخاري ومسلم في كتبهم، ومن أراد الاطلاع على جميع ما ورد في ذلك فليرجع إلى ثلاثة دراسات مهمة في هذا الموضوع، وهي:

١- " دراسات في الحديث النبوي ": تأليف الدكتور: محمد مصطفى الأعظمي.

٢- " تدوين السنة النبوية " للدكتور محمد مطر الزهراني.

٣- " تاريخ تدوين السنة وشبهات المستشرقين " للدكتور حاكم بن عبيسان المطيري. ففي هذه الكتب شرح مفصل وبيان دقيق لهذه المسألة المهمة، وقد ذكرنا لك هنا خلاصة الأفكار التي جاءت في هذه الكتب.

رابعا:

أما عن فكرة درجة التصديق بما جاء في الأحاديث تبعا لتنوعها بين الآحاد والمتواتر، فنحب أن ننبه هنا إلى أنها مسألة تحكمها الاحتمالات والافتراضات العقلية أكثر من تعلقها بالواقع العملي، وقواعد العلماء في التصحيح والتضعيف؛ وعلم الحديث إنما يقرر القواعد التي نستطيع من خلالها الحكم على الحديث بالقبول أو الرد، والقبول بمعنى التصديق بصدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من قوله عليه الصلاة والسلام، بغض النظر عن درجة ذلك القبول.

ولكي تتضح الصورة، نضرب لك مثالا يوضح لك المسألة إن شاء الله، ويبين لك أن تقسيم العلماء للأحاديث إلى متواتر وآحاد، لا يعني الشك في ثبوت أحاديث الآحاد:

إذا جاءت واحدة من زميلاتك الطالبات فأخبرتك أن المعلمة قد حددت موعدا للاختبار في اليوم الفلاني، وأنت لا تشكين في صدق هذه الطالبة، ولا تشكين في حفظها ونباهتها، ألا يكفي ذلك بالنسبة لك لبدء الإعداد لذلك الامتحان والتحضير له، أوليس خبرها كافيا أيضا لتوجيه اللوم لك إن قصرت في التحضير للامتحان، وكل من حولك سواء من أهلك أو زميلاتك أو معلماتك سيتوجهون إليك بأصابع الاتهام بالتقصير إن أنت لم تحصلي على علامة جيدة.

هذا هو معنى كون خبر زميلتك هذه مقبول عندك.

فما رأيك إذا جاءت صديقة أخرى فأخبرتك الخبر نفسه! لا شك أن ذلك سيؤكد الخبر بالنسبة لك، ولكن تأكيد الخبر لا يعني أن خبر صديقتك الأولى لم يكن كافيا، أو لم يكن مفيدا، بل هو كاف ومفيد، ولكن أخبار الصديقات الأخريات عززه وأكده.

فما رأيك إذا رجعت إلى الجامعة فسمعت من معلمتك نفسها عن موعد الاختبار، ألا يبلغ قلبك حينئذ درجة من العلم قد لا يمكن تأكيدها أكثر من ذلك! فهل هذا يعني أن إخبار صديقاتك لك لم يكن كافيا بالنسبة لك، أم أنه كان كافيا ولكن سماعك من معلمتك بلغ بقلبك مرحلة اليقين.

هذا هو معنى ما يتكلم به بعض أهل العلم أن حديث الآحاد ليس كالحديث المتواتر، ونحن نقول: نعم، والحديث المتواتر أيضا ليس كالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولكن ذلك لا يعني أن حديث الآحاد غير مقبول وغير كاف لإقامة الحجة على العباد، تماما كما أن كل العقلاء يعرفون أن خبر صديقتك الصادقة الحافظة لك أنها سمعت المعلمة تحدد موعد الامتحان كاف في إقامة الحجة عليك، ودفعك للتحضير والدراسة.

نرجو أن تكون المسألة أصبحت واضحة بهذا المثال.

ثم نزيد فنقول، إن ما أشرت إليه من أحاديث البخاري ومسلم، أو غيرهما، مما تلقاه أهل العلم بالقبول، قد جاء ما يقويها ويؤكدها ويرفعها إلى مرتبة إفادة العلم، ووجوب تصديقها، والعمل بما فيها:

١- فأكثرها جاء من طرق وروايات وأسانيد كثيرة، مما يؤكد مضمون الحديث وصدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد التأكد من ذلك فليرجع إلى الكتب الستة ليرى كيف أن الحديث الواحد يرويه جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين وهكذا، وإن لم يبلغ حد التواتر.

٢- وكثير من أحاديث الآحاد أجمعت عليها الأمة، وتلقاها العلماء بالقبول، من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، وعملوا بها جميعا، وهذا أيضا يؤكد ويقوي هذه الأحاديث، مثال ذلك الأحاديث الواردة في الصحيحين: البخاري ومسلم، فما زال العلماء يقبلونها ويعملون بما فيها، ومعلوم أن اتفاق العلماء على مر العصور على قبول حديث معين علامة من علامات تأكيده وقوته.

٣- بل وكثير من هذه الأحاديث الصحيحة تشهد لها آيات من القرآن الكريم، وتشهد لها أقوال الصحابة الكرام، بل ويشهد لها الواقع والتاريخ أيضا، فكل هذه مؤكدات رفع مستوى التصديق بخبر الآحاد.

وهذه المؤكدات يسميها العلماء " القرائن "، أي المؤكدات التي تثبت الأحاديث وتؤكدها، وقد رجح المحققون من العلماء أن حديث الآحاد إذا اقترنت به بعض هذه المؤكدات فإنه يفيد العلم الذي يفيده الحديث المتواتر.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" وأما المتواتر فالصواب الذي عليه الجمهور: أن المتواتر ليس له عدد محصور، بل إذا حصل العلم عن إخبار المُخبِرين كان الخبر متواترا، وكذلك الذي عليه الجمهور أن العلم يختلف باختلاف حال المخبِرين به، فرب عدد قليل أفاد خبرُهم العلم بما يوجب صدقهم، وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم؛ ولهذا كان الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم؛ وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلَمُ علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، تارة لتواتره عندهم، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول، وخبر الواحد المتلقَّى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالإسفراييني وابن فورك؛ فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن؛ لكن لمَّا اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكمٍ مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد، فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي؛ لأن الإجماع معصوم، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يُجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال، كذلك أهل العلم بالحديث، لا يُجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق، وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار، توجب لهم العلم، ومَن عَلِمَ ما عَلِمُوه حَصَلَ له مِن العلم ما حصل لهم " انتهى.

" مجموع الفتاوى " (١٨/٤٠-٤١) .

وبناء على ما سبق، فإن الذي يحتاجه المسلم، وهو الأمر الذي تفضلتِ ـ أختنا الكريمة ـ بالإشارة إلى أهمية العناية به من المسلمين، ليس هو ما يطلق عليه ـ اصطلاحا ـ: الحديث المتواتر؛ فإن هذا بحث علمي اصطلاحي، وإنما الذي تريدينه، وهو ما ثبت لدى أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، دائرته أوسع من ذلك بكثير، كما مر معنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويدخل في هذه الدائرة الواسعة، التي يجب على المسلم العناية بها، أحاديث الصحيحين: البخاري ومسلم، فقد تلقى العلماء هذين الكتابين بالقبول، واعتمدوا على أحاديثهما.

فإياك أن تظني أن معنى كون الحديث آحادا أنه مشكوك في صحته، وإياك أن تظني أن الأحاديث التي تأكدت صحتها يقينا هي المتواتر فقط.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>