للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قول من قال: لئن حاسبني ربي على بخلي لأحاسبنه على كرمه

[السُّؤَالُ]

ـ[ما صحة القصة التي تردد في كثير من المواقع والكتب عن الأعرابي الذي لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: لئن حاسبني ربي على بخلي حاسبته على كرمه..ولئن حاسبني على ذنوبي حاسبته على عفوه..ولئن حاسبني على خطاياي حاسبته على رحمته ... وإن كانت غير صحيحة هل يجوز أن نردد مثل هذه العبارات؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

المنهج العام الذي ينبغي أن يسلكه كل مسلم فيما يسمع أو يقرأ هو: التحري والتثبت من صحة ذلك، قبل أن يبني عليه شيئا من علم أو عمل؛ وبهذا أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات/٦

كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التسليم بكل ما ينشر ويعلن ويذاع، فإن النقل والرواية أمانة ينبغي أداؤها على وجهها، ولا يكون ذلك إلا بالتحري والتثبت.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) رواه مسلم (٥)

وهذه القصة لم يخرجها أحد من أهل العلم بالحديث، ولا يُعرف لها سند ضعيفٌ، فضلا عن السند الصحيح، كما أن النكارة في متنها ظاهرة، فإن الأعراب وإن كان لا يستبعد أن يصدر عن أحدهم مثل هذا الكلام في حق الله تعالى – وذلك بحكم جهلهم وجفائهم – إلا أنه لا يمكن أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام الذي يحمل أدب السوء مع الله تعالى ثم يقره ويسكت عنه، فضلا عن أن يبكي إقرارا له كما ينقلون في الرواية.

والله سبحانه وتعالى يحب الخضوع في سؤاله والتواضع في اللجوء إليه، وصدق التذلل والتعبد إليه، والاعتراف بالضعف والعجز والذنب والتقصير.

فهذا آدم عليه السلام يقول في دعائه:

(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الأعراف/٢٣

وهذا نوح عليه السلام يقول: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) هود/٤٧

وقد علَّمَنا نبينا صلى الله عليه وسلم لغة التذلل والخضوع، والاعتراف بالذنب في الدعاء.

عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ:

(أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، وَأَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَعْتَرِفُ بِذُنُوبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، لَا يَقُولُهَا أَحَدُكُمْ حِينَ يُمْسِي فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَلَا يَقُولُهَا حِينَ يُصْبِحُ فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) البخاري (٦٣٠٦) .

هذا هو أدب الدعاء الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وهو أدب الأنبياء والمرسلين، وليس أن يجفو العبد في خطابه ليتطاول على جناب الخالق سبحانه في ألفاظه فيقول (لئن حاسبني لأحاسبنه) ؟!!

فإن المقام بين يدي الله عظيم، والعبد ذليل فقير إلى الله تعالى، لا يليق بعبوديته أن يتطاول على سيده بألفاظه، وإن كانت مقاصدُه صحيحةً، فإنَّ فرضَ العبد التأدبُ باللفظ والمعنى.

فالحاصل أن هذا حديث مكذوب موضوع، لا تجوز روايته ولا نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يجوز أن يخاطب العبد ربه بمثل هذا الخطاب الذي يذكر عن الأعرابي، بل يستعمل المسلم خطاب العبودية التي هي مقامه ومنزلته الحقيقية.

يقول الشيخ حاتم الشريف:

" إن الحديث المذكور يصلح مثالاً للأحاديث التي تظهر فيها علامات الوضع والكذب، وفيه من ركاكة اللفظ، وضعف التركيب، وسمج الأوصاف، ولا يَشُكُّ من له معرفة بالسنة النبوية وما لها من الجلالة والجزالة أنه لا يمكن أن يكون حديثاً صحيحاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أجده بهذا اللفظ، وليت أن السائل يخبرنا بالمصدر الذي وجد فيه هذا الحديث ليتسنى لنا تحذير الناس منه. على أن أبا حامد الغزالي على عادته رحمه الله قد أورد حديثاً باطلاً في "إحياء علوم الدين" (٤/١٣٠) قريباً من مضمونه من الحديث المسؤول عنه، وفيه أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! من يلي حساب الخلق يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله تبارك وتعالى، قال: هو بنفسه؟ قال: نعم، فتبسم الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: ممَّ ضحكت يا أعرابي؟ قال: إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح.. إلى آخر الحديث.

وقد قال العراقي عن هذا الحديث:" لم أجد له أصلاً " وذكره السبكي ضمن الأحاديث التي لم يجد لها إسناداً (تخريج أحاديث الإحياء: رقم ٣٤٦٦، وطبقات الشافعية الكبرى: ٦/٣٦٤) ، ومع ذلك فالنصوص الدالة على سعة رحمة الله تعالى وعظيم عفوه عز وجل وقبوله لتوبة التائبين واستجابته لاستغفار المستغفرين كثيرة في الكتاب وصحيح السنة.

قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) طه/٨٢

وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) الشورى/٢٥

وقال تعالى: (ورحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) الأعراف/١٥٦

وفي الصحيحين البخاري (٧٥٥٤) ومسلم (٢٧٥١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي) والله أعلم " انتهى.

رابط المصدر:

http://saaid.net/Doat/Zugail/٣٢١.htm

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>