للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

التوفيق بين حديث (لن تُغزى مكة بعد هذا العام) وغزو الحجاج والقرامطة لها

[السُّؤَالُ]

ـ[لي سؤال مرتبط بالحديث التالي من كتاب صحيح الجامع الصغير: (لَنْ تُغزى مكةُ بعد هذا العام أبداً) ، فيكف يكون فهمنا للحديث وهناك حوادث، مثل: غزو مكة على يد أبي طاهر من القرامطة، والعراك الذي دار بين الحَجَّاج وعبد الله بن الزبير؟ .]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

نص الحديث الذي سأل عنه السائل: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعِ بْنِ الأَسْوَدِ أَخِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا تُغْزَى مَكَّةُ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ أَبَداً) رواه أحمد في "مسنده" (٢٤/١٣٣) ، وحسَّنه المحققون.

وللحديث شاهد عند الترمذي (١٦١١) عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَقُولُ: (لَا تُغْزَى هَذِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

وأما معنى الحديث فهو محمول على معنيين:

الأول: أن أهل مكة لا يَكفرون أبداً , ولا يُغزون على الكفر؛ وهكذا فسَّره سفيان بن عيينة، كما نقله عنه الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (٤ / ١٦٢) .

ويشهد لذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَنْتَهِي الْبُعُوثُ عَنْ غَزْوِ هَذَا الْبَيْتِ حَتَّى يُخْسَفَ بِجَيْشٍ مِنْهُمْ) رواه النسائي (٢٨٧٨) ، وصححه الألباني في "صحيح النسائي".

والثاني: أنه إخبارٌ بمعنى النهي، أي: لا يجوز لمسلم، أو لجيش أن يتعرض لحرمتها.

ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ - أَوِ: الْفِيلَ - وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) رواه البخاري (١١٢) ومسلم (١٣٥٥) .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

"وَمُحَصِّله: أَنَّهُ خَبَر بِمَعْنَى النَّهْي، بِخِلَافِ قَوْله: (فَلَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي) فَإِنَّهُ خَبَر مَحْض، أَوْ مَعْنَى قَوْله: (وَلَا تَحِلّ لِأَحَدٍ بَعْدِي) أَيْ: لَا يُحِلّهَا اللَّه بَعْدِي، لِأَنَّ النَّسْخ يَنْقَطِع بَعْده؛ لِكَوْنِهِ خَاتَم النَّبِيِّينَ" انتهى.

"فتح الباري" (٤/٤٦) .

وعلى كلا الوجهين لا يرِد ما فعله الجنابي القرمطي، ولا الحجَّاج الظالم، بالكعبة، وأهلها، فهم لم يغزوا مكة لأجل كفر أهلها، بل الأول هو الكافر كفراً أشد من كفر أهل الكتاب، والثاني لم يرد إلا إخضاع عبد الله بن الزبير لطاعة الخليفة المسلم.

وقد ذكر ابن كثير رحمه الله ما فعله أبو طاهر الجنابي بمكة وأهلها، ثم قال:

"وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً فقال: قد أحلَّ الله سبحانه بأصحاب الفيل , وكانوا نصارى ما ذكره في كتابه , ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء , ومعلوم أن القرامطة شرٌّ من اليهود، والنصارى، والمجوس؛ بل ومن عبَدة الأصنام , وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد؛ فهلا عوجلوا بالعذاب، والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟

وقد أجيب عن ذلك: بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت , ولِما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها , وإرسال الرسول منها: أهلكهم سريعاً عاجلاً , ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه: لأنكرت القلوب فضله , وأما هؤلاء القرامطة: فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع , وتمهيد القواعد , والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة، والكعبة , وكل مؤمنٍ يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحاداً بالغاً عظيماً , وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبيَّن من كتاب الله وسنَّة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معالجتهم بالعقوة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار , والله سبحانه يمهل، ويُملي، ويستدرج، ثم يأخذ أخذ عزيزٍ مقتدرٍ" انتهى.

" البداية والنهاية " (١١ / ١٦٢) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>