للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

شبهة حول ما أخبر به القرآن في شأن عيسى عليه السلام!!

[السُّؤَالُ]

ـ[كيف تطلبون من غير المسلمين أن يصدقوا ما في كتابكم بشأن عيسى، ورفض صلبه، وبنوته لله، مع أن الكتاب المقدس قد أخبر بذلك؟.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

لعله من القول المعاد هنا أن ننبه على أن الأناجيل، أو الكتاب المقدس الذي نتكلم عنه، والذي يوجد في أيدي الناس اليوم، هو شيء آخر غير الذي نزل من عند الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم، عليه السلام؛ فذاك الذي نزل من عند الله لا يصح لأحد إيمانه إذا كفر به، أو بشيء منه، وقد سبق التنبيه على ذلك في السؤال رقم [٤٧٥١٦] .

غير أنه، ولحكمة بالغة، لم يزل تحريف الأيدي، وليّ الألسن يعبث بذلك الكتاب، ولم تزل تعدو عليه صروف الدهر، وحوادث الأيام من قديم، حتى ضاع أصله الإلهي، وانقطع من أيدي الناس، ولم يعد بين أيديهم إلا خليط مختلف من ظلمات الشرك والتثليث، مع بصيص من نور التوحيد، وأخلاط من الكذب والتحريف المتتابع، زمانا بعد زمان، مع أثارة من الصدق وعلم النبيين.

ولقد صار من المتعذر، بل من المستحيل، مع بعد العهد، وتتابع العبث، أن يقطع أحد بصدق شيء من ذلك الكتاب أو كذبه، إلا إذا عرض على الحق المهيمن على ما قبله، والمصدق لما بين يديه، الذي لم يشب نوره الإلهي بظلمة من الجهل أو الهوى، ولا صدقه الخالص بكذبة، أو حتى غلطه، وليس ذلك إلا القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه، كما قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/٩.

ومع أن واحدا من كبار الدارسين عند القوم، والمدافعين عن الكتاب المقدس، وهو نورتن، حاول أن يدافع عن الكتاب المقدس أمام طعن إكهارن الجرمني، فقد اضطر إلى أن يعترف بأن تمييز الصدق من الكذب في هذا الزمان عسير!!

ومن هنا نصل إلى موضوع السؤال، لنقول: إن من لم يؤمن بالقرآن، لن يصح له كتاب يؤمن به، ومن طعن في صدق النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحة دين الإسلام، لم يمكنه أن يقيم دليلا على صحة دينه الذي يتمسك به.

ووجه ذلك أن من طعن في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر به من نبوته، والوحي المنزل عليه من السماء، مع أن ظهرت على يديه المعجزات الدالة على صدقه في ما قال، وبقي حياته يتحدى أعداءه بالكتاب الذي ينسبه إلى وحي ربه أن يأتوا بمثله، أو بشيء منه، بل أن تحدى الإنس والجن جميعا أن يجتمعوا ويتظاهروا، ويتساعدوا، من أجل أن يأتوا بمثل هذا القرآن: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا ً) الإسراء/٨٨

ولم يحدث أنهم فعلوا وأتوا بمثله، على ما مر من التاريخ بعده، وعلى كثرة ما عارضه من الأعداء، وودوا لو أثبتوا كذبه، وهيهات!!

ثم بقي ذلك النبي بعد ذلك منصورا على أعدائه، لم يبطلوا له حجة، ولا وقفوا له على كذبة في خبر، ولو كان من حديث الناس الذي يألفونه، فضلا عن أن يكذب على ربه الذي أرسله.

وليت شعري، إذا طعنوا في ذلك كله، فأنى لهم أن يقيموا دليلا على صحة "الإلهام" الذي اعتمدوا عليه في تصديق كتبهم، مع أنهم لا يدعون أن هذه الأناجيل أنزلت على عيسى، أو أنه كتبها، أو أملاها، أو حتى كتبت في حياته!!

هذا مع أنه لا يوجد دليل محقق على شخصية الأربعة الذين كتبوا هذه الأناجيل، ومن يكونون، وكيف كانت سيرتهم وحياتهم، وهل كان ما كتبوه كان من من الوحي الإلهي، أو الإلهام، على حد تعبيرهم، أو كان من بنات أفكارهم، ووحي شياطينهم. يقول هورن، أحد كبار مفسري الكتاب المقدس: (إذا قيل إن الكتب المقدسة أوحيت من جانب الله، فلا يراد أن كل لفظ، والعبارة كلها من إلهام الله، بل يُعلم من اختلاف محاورة المصنفين، واختلاف بيانهم أنهم كانوا مُجَازين (؟!) [يعني: كانوا مسموحا لهم] أن يكتبوا على حسب طبائعهم وعاداتهم وفهومهم، ولا يُتخيل أنهم كانوا ملهمين في كل أمر يبينونه، أو في كل حكم كانوا يحكمونه) .

وقد أشارت دائرة المعارف البريطانية إلى خلاف علماء النصارى وباحثيهم في شأن هذا الإلهام: هل كل قول مندرج في الكتب المقدسة إلهامي أو لا؟ ثم علقت في موضع منها (١٩/٢٠) على ذلك: (إن الذين قالوا إن كل قول مندرج فيها إلهامي، لا يقدرون أن يثبتوا دعواهم بسهولة) .

ونقول: ولا بصعوبة!!

وإزاء عشرات المواضع المتضاربة فيما بين هذه الأناجيل، بعضها وبعض، وعشرات الأغلاط التاريخية، والنبوءات الكاذبة التي لم تتحقق، قرر فريدريك جرانت أن (العهد الجديد كتاب غير متجانس، ذلك أنه شتات مجمع، فهو لا يمثل وجهة نظر واحدة تسوده من أوله إلى آخره، لكنه في الواقع يمثل وجهات نظر مختلفة) .

وأما دائرة المعارف الأمريكية فتذكر (أن هناك مشكلة هامة وصعبة تنجم عن التناقض الذي يظهر في نواح كثيرة بين الإنجيل الرابع، والثلاثة المتشابهة؛ إن الاختلاف بينهم عظيم، لدرجة أنه لو قبلت الأناجيل المتشابهة، باعتبارها صحيحة وموثوقا فيها، فإن ما يترتب على ذلك هو عدم صحة إنجيل يوحنا) .

هذا مع اعتبار أن إنجيل يوحنا هو أشد هذه الأناجيل تقريرا لعقيدتهم في التثليث، بل إنهم ليعترفون أنه ألف من أجل تقرير هذه العقيدة التي أخلت بها الأناجيل الأخرى، وقطع اختلاف الناس في شأنها!!

إن الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تتمسك بشدة بعقيدة الإلهام، كأصل للكتاب المقدس، وأكدت على ذلك في مجمع الفاتيكان عام (١٨٦٩-١٨٧٠) ، عادت أمام هذه الحقائق لتعترف، بعد نحو قرن، في المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان (١٩٦٢-١٩٦٥) بأن هذه الكتب تحتوي على شوائب، وشيء من البطلان، على ما نقله الباحث الفرنسي الكاثوليكي [الذي أسلم فيما بعد] د موريس بوكاي.

ثم إن من كذب بشيء من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وأحواله وسيرته الدالة على صدقه، كيف له أن يثبت معجزات هؤلاء الرسل المزعومين الذي كتبوا الأناجيل، أو يدلل على صدقهم في دعوى الإلهام؟!

إن دعوى الإلهام صادقة في زعمهم بدليل شهادة الكتاب المقدس، وما فيه من ذكر معجزاتهم، والكتاب المقدس وما فيه صادق لأنه إلهام!!

وهكذا ينتهي استدلالهم إلى الدور الباطل، كما نقله ريس في دائرة معارفه عن بعض المحققين: فالكتاب المقدس صحيح لأنه إلهام، وإلهامهم صادق لأن الكتاب المقدس شهد به!!

ومن كذب بالقرآن المنقول بالتواتر، الفاشي في مشارق أرض الإسلام ومغاربها، جيلا بعد جيل، حفظا وكتابة، لا تختلف نسخه، ولا تضطرب ولا تتعارض، أنى له أن يثبت صحة الأناجيل التي يعتمد عليها، والتي لم توجد مجرد إشارة لها، فضلا عن أن توجد أعيانها، قبل مضي نحو قرنين من وفاة المسيح، على ما نقله نورتن عن إكهارن الجرمني، ثم ما وقع في مطلع القرن الرابع بالنصارى من البلاء، والهدم لكنائسهم، وتحريق كتبهم، ما يفقد الثقة بكتبهم التي وجدت بعد ذلك: فمتى وجدت، وعند من كانت في فترة الاضطهاد والاستخفاء، وكيف وصلت إلينا، وكيف، وكيف ... ، أسئلة كثيرة تدور حول هذه المعضلة، فيما عبرت عنه دائرة المعارف البريطانية بقولها:

(ليس لدينا أية معرفة مؤكدة بالنسبة للكيفية التي تشكلت بموجبها قانونية الأناجيل الأربعة، ولا بالمكان الذي تقرر فيه ذلك) .

وأما الجهل بالمترجم الذي نقلها عن اللغة الأصلية التي كتبت بها، وما مدى الثقة بعلمه ودينه وكفايته لهذه المهمة، وكيف لنا أن نتأكد من أنه نقلها على وجهها، فذلك لون آخر!!

[يمكن مراجعة تفصيل ما أجملناه في هذا الجواب في: إظهار الحق، للشيخ رحمة الله الهندي، ومناظرة بين الإسلام والنصرانية، للشيخ محمد جميل غازي وآخرين]

والله يهدينا وإياكم إلى صراطه المستقيم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>