للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل شرب أحد الصحابة دم النبي صلى الله عليه وسلم؟

[السُّؤَالُ]

ـ[هل صَحَّ أنه لما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم.. أنَّ أحد الصحابة شرب الدم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (سَرَت فِيكَ النُّبُوَّة) ؟

ذكرته إحدى الطالبات في حديثنا عن نجاسة الدم وحرمة شربه.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

الدم المسفوح من المحرمات النجسة، وقد جاء الدليل من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.

يقول الله تعالى: (قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنعام/١٤٥

قال الطبري رحمه الله "جامع البيان" (٨/٥٣) :

" الرجس: النجس والنتن " انتهى.

أما السنة: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت:

(جَاءَت امرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت: إِحدَانَا يُصِيبُ ثَوبَهَا مِن دَمِ الحَيضَةِ كَيفَ تَصنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقرُصُهُ بِالمَاءِ ثُمَّ تَنضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ)

رواه البخاري (٢٢٧) ومسلم (٢٩١)

وقد بوب عليه البخاري (باب غسل الدم) ، كما بوب عليه النووي (باب نجاسة الدم وكيفية غسله)

وأما الإجماع:

فقال النووي رحمه الله: " الدم نجس، وهو بإجماع المسلمين " انتهى.

ونقله أيضا القرطبي في تفسيره (٢/٢١٠) وابن رشد في بداية المجتهد (١/٧٩)

ثانيا:

جاء في بعض الأحاديث أن بعض الصحابة رضي الله عنهم شربوا دم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه أقرهم على ذلك، وفي بعضها أنه أنكر عليهم، ولم أجد في شيء من الروايات اللفظ المذكور في السؤال: (سرت فيك النبوة) ، ونذكر هنا هذه الأحاديث وحكم العلماء عليها:

١- عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:

(أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحتَجِمُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: يَا عَبدَ اللَّهِ اذهَب بِهَذَا الدَّمِ فَأَهرِقهُ حَتَّى لا يَرَاهُ أَحَدٌ.

فَلَمَّا بَرَزَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَمَدَ إِلَى الدَّمِ فَشَرِبَهُ.

فَقَالَ: يَا عَبدَ اللَّهِ مَا صَنَعتَ؟

قَالَ: جَعَلتُهُ فِي أَخفَى مَكَانٍ ظَنَنتُ أَنَّهُ يَخفَى عَلَى النَّاسِ.

قَالَ: لَعَلَّكَ شَرِبتَهُ.

قَالَ: نَعَم.

قَالَ: وَلِمَ شَرِبتَ الدَّمَ؟! وَيلٌ لِلنَّاسِ مِنكَ وَوَيلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ)

رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (١/٤١٤) ، والبزار في مسنده (٦/١٦٩) ، والحاكم في المستدرك (٣/٦٣٨) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٧/٦٧) ، ولكن بلفظ: (ما تلقى أمتك منك!) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (٢٨/١٦٣)

جميعهم من طريق هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه به.

وهنيد بن القاسم: ترجمته في "التاريخ الكبير" (٨/٢٤٩) وفي "الجرح والتعديل" (٩/١٢١) ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكره ابن حبان في "الثقات" (٥/٥١٥) ولم يعرف روى عنه إلا موسى بن إسماعيل.

ومثل هذا الراوي يعتبر في عداد المجاهيل، ولكن يحسن حديثه إن تابعه أو شهد له ما يقويه، وقد جاء عن بعض أهل العلم ما يدل على توثيقه وقبول حديثه:

قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (١/٣٠) :

" وفي إسناده الهنيد بن القاسم، ولا بأس به، لكنه ليس بالمشهور بالعلم " انتهى.

وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (٣/٣٦٦) :

" ما علمت في هنيد بن القاسم جرحة " انتهى.

وللحديث طريق أخرى رواها الدارقطني (١/٢٢٨) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (٢٨/١٦٢) من طريق:

محمد بن حميد ثنا علي بن مجاهد ثنا رباح النوبي أبو محمد مولى آل الزبير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أنها ذكرت قصة شرب عبد الله بن الزبير ابنها دم النبي صلى الله عليه وسلم أمام الحجاج، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: لا تمسك النار.

قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (١/٣١) :

" وفيه علي بن مجاهد وهو ضعيف " انتهى.

وعلي بن مجاهد هذا هو الكابلي، كذبه يحي بن الضريس، ويحي بن معين، كما في الميزان، وقال فيه الحافظ في التقريب: " متروك، من التاسعة، وليس في شيوخ أحمد أضعف منه "

وفيه أيضا رباح النوبي، قال الحافظ: " لينه بعضهم، ولا يُدْرَى من هو " [لسان الميزان ٢/٤٤٣] .

وبهما أعله العظيم آبادي في التعليق المغني، قال (١/٤٢٥) : (قوله: " علي بن مجاهد، حدثنا رباح النوبي "، هما ضعيفان لا يحتج بهما) .

وفيه أيضا: محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف، كما في التقريب وغيره.

كما رواه في جزء الغطريف ـ كما قال ابن حجر في الإصابة (٤/٩٣) والتلخيص الحبير (١/٣٢)) ـ ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (٢٨/١٦٢) :

عن أبي خليفة الفضل بن الحباب نا عبد الرحمن بن المبارك نا سعد أبو عاصم مولى سليما بن علي عن كيسان مولى عبد الله بن الزبير قال أخبرني سلمان الفارسي ... وذكر القصة، وفيها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن الزبير: لا تمسك النار إلا قسم اليمين.

فيظهر من مجموع هذه الروايات أن قصة شرب عبد الله بن الزبير دم النبي صلى الله عليه وسلم لها أصل، والله أعلم.

٢- سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عن بُرَيه بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده قال:

(احتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير، أو قال: الناس والدواب. قال: فتغيبت به فشربته. قال: ثم سألني فأخبرته أني شربته، فضحك)

رواه البخاري في التاريخ الكبير (٤/٢٠٩) ، وابن عدي في الكامل (٢/٦٤) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/٦٧) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (٧/٨١)

كلهم من طريق ابن أبي فديك عن بُرَيه بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده.

قال ابن كثير في "الفصول في السيرة" (٣٠٠) :

" فإنه حديث ضعيف لحال بُريه هذا، واسمه إبراهيم؛ فإنه ضعيف جدا " انتهى.

وقال الشيخ الألباني رحمه الله "السلسلة الضعيفة" (١٠٧٤) :

" وهذا سند ضعيف، وله علتان:

الأولى: عمر بن سفينة، قال الذهبي في "الميزان": لا يعرف، وقال أبو زرعة: صدوق، وقال البخاري: إسناده مجهول.

وأورده العقيلي في الضعفاء (٢٨٢) وقال: " حديث غير محفوظ ولا يعرف إلا به "

والأخرى: ابنه بُرَيه – مصغرا -، واسمه إبراهيم، أورده العقيلي أيضا (٦١) وقال: لا يتابع على حديثه. وقال ابن عدي في "الكامل" (٢/٦٤) : له أحاديث يسيرة غير ما ذكرت، ولم أجد للمتلكمين في الرجال لأحد منهم فيه كلاما، وأحاديثه لا يتابعه عليها الثقات، وأرجو أنه لا بأس به "

وقال الذهبي في الميزان: ضعفه الدارقطني، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. وقال أيضا: وتفرد بُرَيه عن أبيه بمناكير "

والحديث ضعفه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام"، وسكت عليه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" فلم يُجِد " انتهى كلام الألباني.

٣- سالم أبو هند الحجام رضي الله عنه.

قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (١/٣٠) :

" رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث سالم أبي هند الحجام قال:

حجمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت شربته، فقلت: يا رسول الله شربته. فقال: ويحك يا سالم، أما علمت أن الدم حرام! لا تَعُد)

وفي إسناده أبو الحجاف، وفيه مقال " انتهى.

٤- غلام لبعض قريش.

عن نافع أبي هرمز عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

(حجم النبيَّ صلى الله عليه وسلم غلامٌ لبعض قريش، فلما فرغ من حجامته أخذ الدم، فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينا وشمالا، فلما لم ير أحدا تحسى دمه حتى فرغ، ثم أقبل، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، فقال: ويحك ما صنعت بالدم؟ قلت: غيبته من وراء الحائط. قال: أين غيبته؟ قلت: يا رسول الله! نفست على دمك أن أهريقه في الأرض، فهو في بطني. قال: اذهب فقد أحرزت نفسك من النار)

ذكره ابن حبان في المجروحين (٣/٥٩) في ترجمة نافع أبي هرمز وقال: روى عن عطاء نسخة موضوعة، وذكر منها هذا الحديث.

٥- مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.

قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (١/٣١) :

" وفي الباب حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور (٢/٢٢١) من طريق عمر بن السائب أنه بلغه أن مالكا والد أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له: مُجَّهُ. فقال: لا والله لا أمُجُّهُ أبدا. ثم أدبر فقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فاستشهد " انتهى.

الخلاصة أن أصح ما ورد في شرب الصحابة بعض دم النبي صلى الله عليه وسلم، هو ما جاء من شرب عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، على ما مر من الكلام في سنده، ولم يصح عن أحد غيره.

ثالثا:

فكيف يوفق العلماء بين ما تقرر من نجاسة الدم، وبين شرب عبد الله بن الزبير دم النبي صلى الله عليه وسلم الشريف؟

قالوا: ذلك من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بها في الحكم عن سائر الأمة، وهي خصوصيات كثيرة جمعها أهل العلم في مجلدات، مثل الإمام السيوطي في كتابه "الخصائص الكبرى"، فقد نص بعض أهل العلم على طهارة دمه الشريف صلى الله عليه وسلم اعتمادا على قصة عبد الله بن الزبير.

انظر الشفا (١/٥٥) ومغني المحتاج (١/٢٣٣) وتبين الحقائق (٤/٥١) وإن كان نقل في المجموع (١/٢٨٨) عن جمهور الشافعية القول بنجاسة دم النبي صلى الله عليه وسلم كسائر الدماء.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>