للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل قبر يحيى عليه السلام في الجامع الأموي

[السُّؤَالُ]

ـ[رأيت في أحد البرامج الوثائقية عن الجامع الأموي، ورأيت فيه ضريحاً للنبي يحيى، ومقامات كثيرة للصحابة، وبعض زوجات النبي، ومشهد رأس الحسين. سؤالي: ما حكم مثل هذا؟ خصوصاً وأن بعض الناس يجلسون عندها، وربما كان لهم دعاء واستغاثه بهم، وهل هذه القبور والأضرحة حقيقية؟ أعني هل النبي يحيى ـ مثلاً ـ هو هنا أم هو كذب وتدليس.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا جعل القبور في المساجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) رواه البخاري (٤٤٤٤) ومسلم (٥٣١) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقوله: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري (٣٨٧٣) ومسلم (٥٢٨) من حديث عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك.

وقوله حين بعث عليا رضي الله عنه: (أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ) رواه مسلم (٩٦٩) .

وما روى مسلم (٩٧٠) عَنْ جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) .

وروى أحمد (٣٨٤٤) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ) والحديث حسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.

فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على تحريم بناء المساجد على القبور، ولهذا لا يظن بأحد من الصحابة أنه أوصى بأن يدفن في مسجد، أو أقر دفن ميت في مسجد، لمصادمة ذلك للنصوص المعلومة المشهورة.

ثانيا:

ما يشاع عند العامة من وجود قبور لبعض الصحابة، أو لغيرهم، في بعض المساجد، أكثره غير ثابت، وما ثبت منه فلا حجة فيه؛ لأن هذه المساجد إنما بنيت في عصور متأخرة، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" أما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطعا: مثل المشهد الذي بظاهر دمشق المضاف إلى " أبي بن كعب ". والمشهد الذي بظاهرها المضاف إلى " أويس القرني " والمشهد الذي بمصر المضاف إلى " الحسين " رضي الله عنه ; إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول ذكرها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار، حتى قال طائفة من العلماء منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح شيء منها إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أثبت غيره أيضا قبر الخليل عليه السلام.

وأما " مشهد علي " فعامة العلماء على أنه ليس قبره ; بل قد قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنه إنما أظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت علي في إمارة بني بويه ... وجمهور أهل المعرفة يقولون: إن عليا إنما دفن في قصر الإمارة بالكوفة أو قريبا منه ... وكذلك " قبر معاوية " الذي بظاهر دمشق قد قيل: إنه ليس قبر معاوية وإن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال إنه " قبر هود ".

وأصل ذلك أن عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق لا يكاد يوقف منه على العلم إلا في قليل منها بعد بحث شديد. وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه حيث قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر /٩] ; بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعله المبتدعون عندها، مثل قوله الذي رواه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: {سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك} وقال: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} .

وقد اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا يشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة أو اعتكاف أو استغاثة أو ابتهال أو نحو ذلك، كرهوا الصلاة عندها ; ثم إن كثيرا منهم قال: إن الصلاة عندها باطلة لأجل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها ... " انتهى من "مجموع الفتاوى" (٢٧/٤٤٧) .

وقال ـ أيضا ـ عما يُزْعَم من وجود رأس الحسين في مصر أو الشام:

" ومنها " مشهد الرأس " الذي بالقاهرة؛ فإن المصنفين في قتل الحسين اتفقوا على أن الرأس ليس بمصر، ويعلمون أن هذا كذب. وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذاك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو ثلاثمائة عام، قد بَيَّن كذب هذا المشهد: ابنُ دحية في " العلم المشهور " وأن الرأس دفن بالمدينة كما ذكره الزبير بن بكار ... ". انتهى.

"مجموع الفتاوى" (٢٧/٤٩١) .

ثالثا:

ليس هناك مستند صحيح يدل على أن يحيى عليه السلام مدفون في الجامع الأموي، فضلا عن القول بأن الصحابة رأوا قبره وتركوه في المسجد، كما يدعيه البعض.

قال الشيخ الألباني رحمه الله: " ونحن نقطع ببطلان قولهم، وأن أحدا من الصحابة والتابعين لم ير قبرا ظاهرا في مسجد بني أمية أو غيره، بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد: أنهم في أثناء العمليات وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سفط (وعاء كامل) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب عليه: هذا رأي يحيى عليه السلام فأمر به الوليد فرد إلى المكان وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة، فجعل عليه عمود مسبك بسفط الرأس. رواه أبو الحسن الربعي في فضائل الشام (٣٣) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (ج ٢ ق ٩ / ١٠) وإسناده ضعيف جدا، فيه إبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة وقال الذهبي " متروك ".

ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر، حتى أواخر القرن الثاني؛ لِما أخرجه الربعي وابن عساكر، عن الوليد بن مسلم أنه سئل: أين بلغك رأس يحى بن زكريا؟ قال: بلغني أنه ثَم؛ وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي، فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم، وقد توفي سنة أربع وتسعين ومائة.

وأما كون ذلك الرأس هو رأس يحى عليه السلام فلا يمكن إثباته، ولذلك اختلف المؤرخون اختلافا كثيرا، وجمهورهم على أن رأس يحيى عليه السلام مدفون في مسجد حلب ليس في مسجد دمشق، كما حققه شيخنا في الإجازة العلامة محمد راغب الطباخ في بحث له نشره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (ج ١ ص ٤١-١٤٨٢) تحت عنوان " رأس يحيى ورأس زكريا " فليراجعه من شاء.

ونحن لا يهمنا من الوجهة الشرعية ثبوت هذا أو ذاك، سواء عندنا أكان الرأس الكريم في هذا المسجد أو ذاك، بل لو تيقنا عدم وجوده في كل من المسجدين، فوجود صورة القبر فيهما كاف في المخالفة؛ لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تبنى على الظاهر لا الباطن كما هو معروف، وسيأتي ما يشهد لهذا من كلام بعض العلماء، وأشد ما تكون المخالفة إذا كان القبر في قبلة المسجد، كما هو الحال في مسجد حلب، ولا منكِر لذلك من علمائها ". انتهى. من "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" ص ٦٣

رابعا:

ما يفعل عند هذه القبور من دعاء لها، واستغاثة بها، وطواف حولها، كل ذلك من الشرك الذي حرمه الله؛ لأنه صرف للعبادة لغير الله، فليس لأحد أن يدعو أو يستغيث بميت، سواء وقف عند قبره أو بعيدا عنه، بل الدعاء لله وحده، فهو الرب المغيث المجيب المنعم المتفضل سبحانه.

ومن شاهد هذه المنكرات عند الأضرحة المذكورة علم حكمة الشريعة وكمالها في التحذير من بناء المساجد على القبور، لما يترتب على ذلك من الفتنة بها، حتى تعبد من دون الله عز وجل.

نسأل الله تعالى أن يرد ضال المسلمين إلى الهدى والحق ردا جميلا.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>