للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حكم إقامة الجماعة الثانية في المسجد

[السُّؤَالُ]

ـ[أثيرت فتنة داخل المسجد وانتشرت بين الإخوة وهي إقامة الجماعة الثانية بعد الجماعة الأولى في المسجد الذي له إمام راتب، لدرجة قيام الإخوة بالمنع منه، أرجو الإفادة للضرورة]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

إقامة الجماعة الثانية في المسجد له عدة صور، بعضها ممنوع وبعضها جائز.

والصورة التي ينبغي أن نتفق على منعها هي: إذا كانت هذه الجماعة تقام باتفاق مسبق من هؤلاء، كما لو اتفق جماعة على الحضور إلى المسجد بعد انتهاء الإمام من الصلاة ثم يصلون جماعةً، ومثلها أيضا في المنع: إذا كانت الجماعة الثانية شيئا راتبا في المسجد ونظاماً معمولاً به، كما لو قيل مثلاً: إن الجماعة الأولى تقام الساعة كذا، والجماعة الثانية تقام الساعة كذا، ويكون هذا شيئا راتباً.

فهاتان الصورتان لا إشكال في النهي عنهما، لما فيهما من تفريق جماعة المسلمين، وتثبيط الناس عن الحضور إلى الجماعة الأولى.

أما إذا أقيمت الجماعة الثانية في المسجد من غير اتفاق، كما لو دخل جماعة إلى المسجد بعد انتهاء الإمام من الصلاة فصلوا جماعة، فهذه الصورة فيها خلاف بين العلماء، والصحيح جوازها بل استحبابها، لما فيها من تحصيل ثواب الجماعة.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وهو يذكر صور إقامة الجماعة الثانية في المسجد: " فأما الصورة الأولى، بأن يكون في المسجد جماعتان دائما، الجماعة الأولى والجماعة الثانية، فهذا لا شك أنه مكروه إن لم نقل: إنه محرم؛ لأنه بدعة؛ لم يكن معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ومن ذلك ما كان معروفا في المسجد الحرام سابقا قبل أن تتولى الحكومة السعودية عليه، كان فيه أربع جماعات، كل جماعة لها إمام: إمام الحنابلة يصلي بالحنابلة، وإمام الشافعية يصلي بالشافعية، وإمام المالكية يصلي بالمالكية، وإمام الأحناف يصلي بالأحناف.

ويسمونه: هذا مقام الشافعي، وهذا مقام المالكي، وهذا مقام الحنفي، وهذا مقام الحنبلي، لكن الملك عبد العزيز جزاه الله خيرا لما دخل مكة، قال: هذا تفريق للأمة، أي: أن الأمة الإسلامية متفرقة في مسجد واحد، وهذا لا يجوز، فجمعهم على إمام واحد، وهذه من مناقبه وفضائله رحمه الله تعالى.

فهذا الذي أشار إليه أحد المحاذير، وهو تفريق الأمة.

وأيضا: أنه دعوة للكسل؛ لأن الناس يقولون: ما دام فيه جماعة ثانية ننتظر حتى تأتي الجماعة الثانية، فيتوانى الناس عن حضور الجماعة مع الإمام الراتب الأول ".

ثم ذكر الصورة الثانية فقال:

" وأما الصورة الثانية، أن يكون عارضا، أي أن الإمام الراتب هو الذي يصلي بجماعة المسجد، لكن أحيانا يتخلف رجلان أو ثلاثة أو أكثر لعذر، فهذا هو محل الخلاف.

فمن العلماء من قال: لا تعاد الجماعة، بل يصلون فرادى.

ومنهم من قال: بل تعاد، وهذا القول هو الصحيح، وهو مذهب الحنابلة، ودليل ذلك:

أولا: حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) رواه أبو داود (٥٥٤) والنسائي (٨٤٣) وهذا نص صريح بأن صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده، ولو قلنا: لا تقام الجماعة لزم أن نجعل المفضول فاضلا، وهذا خلاف النص.

ثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالسا ذات يوم مع أصحابه، فدخل رجل بعد أن انتهت الصلاة، فقال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه؟) فقام أحد القوم فصلى مع الرجل. رواه الترمذي (٢٢٠) وهذا نص صريح في إعادة الجماعة بعد الجماعة الراتبة، حيث ندب النبي عليه الصلاة والسلام من يصلي مع هذا الرجل، وقول من قال: إن هذه صدقة، وإذا صلى اثنان في المسجد وقد فاتتهما الصلاة فصلاة كل واحد منهما واجبة. فيقال: إذا كان يؤمر بالصدقة، ويؤمر من كان صلى أن يصلي مع هذا الرجل، فكيف لا يؤمر من لم يصل أن يصلي مع هذا الرجل؟!

الصورة الثالثة: أن يكون المسجد مسجد سوق، أو مسجد طريق سيارات، أو ما أشبه ذلك، فإذا كان مسجد سوق يتردد أهل السوق إليه فيأتي الرجلان والثلاثة والعشرة يصلون ثم يخرجون، كما يوجد في المساجد التي في بعض الأسواق، فلا تكره إعادة الجماعة فيه، قال بعض العلماء: قولا واحدا، ولا خلاف في ذلك؛ لأن هذا المسجد من أصله معد لجماعات متفرقة؛ ليس له إمام راتب يجتمع الناس عليه " انتهى من "الشرح الممتع" (٤/٢٢٧- ٢٣١) .

والذي نوصي به إخواننا هو التناصح والسعي لجمع الكلمة ونبذ الاختلاف والفرقة، وترك حظ النفس، والمحافظة على هذه الشعيرة التي هي من أسباب الاتحاد والائتلاف، فكيف تجعل وسيلة للخلاف والفرقة.

ولنا قدوة في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد أنكر على عثمان رضي الله عنه إتمامه الصلاة بمنى، ومع ذلك أتم الصلاة، فلما سئل عن ذلك قال: (الْخِلافُ شَرٌّ) رواه أبو داود (١٩٦٠) .

ومما يدل على أهمية السعي في تأليف القلوب، أن جماعة من أهل العلم نصوا على جواز ترك الإمام بعض السنن لمصلحة تأليف الجماعة، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ولو كان الإما يرى استحباب شيء , والمأمومون لا يستحبونه , فترَكه لأجل الاتفاق والائتلاف، كان قد أحسن. مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة. كالمغرب: كقول من قاله من أهل العراق. والثاني: أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها , كقول من قال ذلك من أهل الحجاز. والثالث: أن الأمرين جائزان , كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما , وهو الصحيح. وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله , فلو كان الإمام يرى الفصل , فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب، فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة , ولألصقتها بالأرض ; ولجعلت لها بابين , بابا يدخل الناس منه , وبابا يخرجون منه) فترك الأفضل عنده ; لئلا ينفر الناس.

وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأمّ بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم كان قد أحسن " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (٢/١١٨) .

نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>