للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فوائد الشدائد

[السُّؤَالُ]

ـ[لقد شاهدت على شاشات التلفاز الكثير من المصائب والمآسي التي تمر بها الأمة الإسلامية، في فلسطين جراحنا تنزف، وفي الشيشان أجسادنا تقطع، وفي أفغانستان بيوتنا تهدم، وفي الفلبين وكشمير.. واليوم في العراق..

وغداً الله أعلم بمن سيلاقي هذا المصير..

فهل هذه المصائب والمآسي التي نراها خيرٌ أم شر؟.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

خلق المصائب والآلام فيه من الحكم ما لا يحيط بعلمه إلا الله، ومما أطلعنا الله عليه مما هو دال على ذلك:

١- أن في الآلام والمصائب امتحاناً لصبر المؤمن قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة / ٢١٤.

٢- أن فيها دليلاً على ضعف الإنسان، وافتقاره الذاتي إلى ربه، ولا فلاح له إلا بافتقاره إلى ربه، وانطراحه بين يديه.

٣- المصائب سبب لتكفير الذنوب ورفعة الدرجات قال صلى الله عليه وسلم: " ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة، أو حطّت عنه بها خطيئة " رواه مسلم (٢٥٧٢)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي (٢٣٩٩) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٢٢٨٠) .

وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ. رواه الترمذي (٢٤٠٢) انظر: السلسلة الصحيحة برقم (٢٢٠٦) .

٤- ومن حكم المصائب عدم الركون إلى الدنيا، فلو خلت الدنيا من المصائب لأحبها الإنسان أكثر ولركن إليها وغفل عن الآخرة، ولكن المصائب توقظه من غفلته وتجعله يعمل لدار لا مصائب فيها ولا ابتلاءات.

٥- ومن أعظم حكم المصائب والإبتلاءات: التنبيه والتحذير عن التقصير في بعض الأمور ليتدارك الإنسان ما قصر فيه، وهذا كالإنذار الذي يصدر إلى الموظف أو الطالب المقصر، والهدف منه تدارك التقصير، فإن فعل فبها ونعمت، وإلا فإنه يستحق العقاب، ولعل من الأدلة على ذلك قوله تعالى: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) .

ومن الحكم المترتبة على سابقتها الإهلاك عقاباً لمن جاءته النذر، ولكنه لم يستفد منها ولم يغير من سلوكه، واستمر على ذنوبه قال تعالى: {فأهلكناهم بذنوبهم} .

وقال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين) ، وقال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)

قال ابن تيمية رحمة الله: " قد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محموداً من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموماً، فهذا يثاب على ما في قلبه، من حب الخير وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة، نهي عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه "

فافهم هذا يا من تتمنى أن يغير الله الأحوال بلا عمل منك ومن أمثالك.

٦- قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) الأنعام / ٤٢

قال السعدي رحمه الله: لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك من الأمم السالفين والقرون المتقدمين فكذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا. فأخذناهم بالبأساء والضراء أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب رحمة منا بهم. لعلهم يتضرعون إلينا ويلجأون عند الشدة إلينا.

وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم / ٤١.

أي استعلن الفساد في البر والبحر، أي فساد معايشهم ونقصانها وحلول الآفات بها.

وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك. وذلك بسبب ما قدمت أيديهم، من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها.

هذه المذكورة (ليذيقهم بعض الذي عملوا) أي ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجاً من جزاء أعمالهم في الدنيا (لعلهم يرجعون) عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت. فتصلح أحوالهم، ويستقيم أمرهم.

فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته، وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.

٧- والعبادة في الشدائد والفتن لها طعم خاص وأجر خاص:

عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) . رواه مسلم (٢٩٤٨) .

قال النووي: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْعِبَادَة فِي الْهَرْج كَهِجْرَةِ إِلَيَّ) الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس. وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا , وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا , وَلا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلا أَفْرَاد.

قَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَنَّ الْفِتَن وَالْمَشَقَّة الْبَالِغَة سَتَقَعُ حَتَّى يَخِفّ أَمْر الدِّين وَيَقِلّ الاعْتِنَاء بِأَمْرِهِ وَلَا يَبْقَى لأَحَدٍ اِعْتِنَاء إِلا بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاش نَفْسه وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ , وَمِنْ ثَمَّ عَظُمَ قَدْر الْعِبَادَة أَيَّام الْفِتْنَة كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث مَعْقِل بْن يَسَار رَفَعَهُ " الْعِبَادَة فِي الْهَرْج كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "

٨- أن حصول النعمة بعد ألم ومشقة ومصيبة أعظم قدراً عند الإنسان.

فيعرف الإنسان قدر نعمة الله عليه في الصحة والعافية، ويقدرها حق قدرها.

فمن فوائد المصائب: التذكير بنعم الله تعالى على الإنسان، لأن الإنسان الذي خلق مبصراً – مثلاً – ينسى نعمة البصر ولا يقدرها حق قدرها، فإن ابتلاه الله بعمى مؤقت ثم عاد إليه بصره أحس بكل مشاعره بقيمة هذه النعمة، فدوام النعم قد ينسي الإنسان هذه النعم فلا يشكرها، فيقبضها الله ثم يعيدها إليه تذكيراً له بها ليشكرها.

بل إن في المصائب تذكيراً للإنسان المصاب ولغيره بنعم الله، فإذا رأى الإنسان مجنوناً أحس بنعمة العقل، وإن رأى مريضاً أحس بالصحة، وإن رأى كافراً يعيش كالأنعام أحس بنعمة الإيمان، وإن رأى جاهلاً أحس بنعمة العلم، هكذا يشعر من كان له قلب متفتح يقظ، أما الذين لا قلوب لهم فلا يشكرون نعم الله بل يبطرون، ويتكبرون على خلق الله.

٩- فوائد المصيبة أنها تنقذ الإنسان من الغفلة، وتنبه العبد على تقصيره في حق الله تعالى، حتى لا يظن في نفسه الكمال فيكون سبباً لقسوة القلب والغفلة قال تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام / ٤٣.

١٠- ومن حكم الابتلاءات والشدائد: التمحيص

فالشدائد تكشف حقائق الناس وتميز الطيب من الخبيث، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، يقول الله الباري جلا شانه عن غزوة أحد وما نال المسلمين فيها، مبيناً جانباً من الحكمة في هذا الابتلاء: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)

فينكشف كلٌ على حقيقته:

جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي

وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي

١١- وليقوم المسلمون بإغاثة من تصيبهم المصائب من المسلمين فيؤجرون على ذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) . رواه البخاري (٦٠١١) ومسلم (٢٥٨٦) وقال: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري (١٣) ومسلم (٤٥) .

١٢- وفي الشدائد والحروب يظهر الأثر الحقيقي لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)

فمن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين: جهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله عز وجل، ومشاركة أهل الدعوة الإسلامية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال، وتهيئة جميع الوسائل والعدة والعتاد من أجل الجهاد في سبيل الله.

ومن صور التعاون في نصرة الدين التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: التعاون على قتل مدعي النبوة، وقتل رؤوس أهل الشرك والمرتدين ومنهم الذين يسبون النبي صلى الله عليه وسلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>