للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

استحباب العزلة عند الفتن وخوف المسلم على دينه

[السُّؤَالُ]

ـ[قرأت الحديث التالي والذي أخرجه البخاري ولم أفهم معناه، وهذا الحديث فيما معناه: (سيأتي زمان يكون خير مال المسلم غنيمات يأوي بها إلى الجبال فاراً بدينه من الفتن) .أرجو أن توضحوا لي معنى هذا الحديث.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

شرح الحديث:

هذا الحديث رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها (٧٠٨٨) كتاب الفتن، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن) . وروى مسلم في صحيحه نحوه (١٨٨٨) عن أبي سعيد الخدري أيضاً رضي الله عنه الله عنه أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) .

قوله: (شَعَفَ الْجِبَالِ) أي: رؤوس الجبال. وَأَمَّا (الشِّعْب) : فَهُوَ مَا انْفَرج بَيْن جَبَلَيْنِ. قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (١٣/٣٤) : وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْس الشِّعْب خُصُوصًا ; بَلْ الْمُرَاد الانْفِرَاد وَالاعْتِزَال , وَذَكَرَ الشِّعْب مِثَالا لأَنَّهُ خَالٍ عَنْ النَّاس غَالِبًا اهـ.

والحديث يدل على أفضلية العزلة عن الناس وترك الاختلاط بهم، في حال خوف المسلم على دينه لكثرة الفتن، بحيث إنه لو خالط الناس لا يأمن على دينه من أن يرتد عنه، أو يزيع عن الحق، أو يقع في الشرك، أو يترك مباني الإسلام وأركانه، ونحو ذلك.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (١٣/٤٢) : وَالْخَبَر دَالّ عَلَى فَضِيلَة الْعُزْلَة لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينه اهـ.

وقال السندي في حاشيته على النسائي (٨/١٢٤) : فِيهِ أَنَّهُ يَجُوز الْعُزْلَة بَلْ هِيَ أَفْضلُ أَيَّام الْفِتَن اهـ.

وفي الحديث الثاني المذكور آنفاً جعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم المؤمنَ المعتزلَ يتلو المجاهد في سبيل الله في الفضيلة، قال الحافظ في الفتح (٦/٦) : وَإِنَّمَا كَانَ الْمُؤْمِن الْمُعْتَزِل يَتْلُوهُ فِي الْفَضِيلَة لأَنَّ الَّذِي يُخَالِط النَّاس لا يَسْلَم مِنْ ارْتِكَاب الآثَام، وَقَدْ تكون هذه الآثام أكثر من الحسنات التي يحصلها بسبب اختلاطه بالناس. ولكن تفضيل الاعتزال خاص بحالة وقوع الفتن اهـ بمعناه.

وأما العزلة في غير وقت الفتن وخوف المسلم على دينه فاختلف العلماء في حكمها، وذهب الجمهور إلى أن الاختلاط بالناس أفضل من العزلة واستدلوا على ذلك بعدة أدلة، منها:

١- أن ذلك هو حال النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم، والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم، وجماهير الصحابة رضي الله عنهم. شرح مسلم للنووي (١٣/٣٤) .

٢- ما رواه الترمذي (٥٢٠٧) وابن ماجه (٤٠٣٢) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) . صححه الألباني في صحيح الترمذي (٢٠٣٥) .

قال السندي في حاشيته على ابن ماجه (٢ / ٤٩٣) : الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِطَ الصَّابِرَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِل اهـ

وقال الصنعاني في سبل السلام (٤/٤١٦) : فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة اهـ

٣- ما رواه الترمذي (١٥٧٤) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِن مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا. فَقَالَ: لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ؟ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (١٣٤٨) .

٤- ما يحصله المسلم في المخالطة من المصالح الشرعية من مَنَافِع الاخْتِلاط بالناس كَالْقِيَامِ بِشَعَائِر الإِسْلام وَتَكْثِير سَوَاد الْمُسْلِمِينَ وَإِيصَال أَنْوَاع الْخَيْر إِلَيْهِمْ مِنْ إِعَانَة وَإِغَاثَة ونَحْو ذَلِكَ. وشُهُودِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجَنَائِز وَعِيَادَة الْمَرْضَى وَحِلَق الذِّكْر. . . وَغَيْر ذَلِكَ. فتح الباري (١٣/٤٣) شرح مسلم للنووي (١٣/٣٤) . والله الموفق، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

الشيخ محمد صالح المنجد

<<  <  ج: ص:  >  >>