للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يجوز التنقل بين المشاعر بملابس الإحرام بقصد التعليم؟

[السُّؤَالُ]

ـ[عندنا في " مكة " تقوم بعض المدارس بإقامة رحلة تعليمية للأطفال بالحج، وذلك بإلباس الأولاد الإحرام، وصحبهم إلى المشاعر، ويقومون بالتلبية، وذلك خلال يوم دراسي في ذي القعدة، فما حكم ذلك؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

كان للنبي صلى الله عليه طرق متعددة في تعليم أصحابه رضي الله عنهم، وفي كل هذه الطرق كان القصد من سلوك سبيلها: تقريب المادة إلى الذهن حتى كأنه يراها، أو ليؤدي الطاعة والعبادة على وجهها الأكمل، وهذا من حُسن تعليمه صلى الله عليه وسلم، والذي أثنى عليه أصحابه به، فقال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ) . رواه مسلم (٥٣٧) .

مثال الأول:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ: (هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ - وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ: الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا: نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا: نَهَشَهُ هَذَا) رواه البخاري (٦٠٥٤) .

ومثال الثاني:

عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ قال: وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَيْهِ (يعني: المنبر) فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي) رواه البخاري (٨٧٥) ومسلم (٥٤٤) .

وهو ما فعله الصحابة رضي الله عنهم من تعليم الناس بالعمل، كما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه في تعليم الناس الوضوء عمليّاً، وكما فعل مالك بن الحويرث وعقبة بن عمرو رضي الله عنهما عندما علَّما الناس صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عمليّاً، وحديث عثمان في الصحيحين، وحديث مالك في البخاري، وحديث عقبة في أبي داود والنسائي.

وقد كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر صلاةً شرعية حقيقية، وليست حركات من أجل التعليم، وهكذا كان وضوء عثمان، وصلاة مالك بن الحويرث وعقبة بن عمرو رضي الله عنهم.

عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي.رواه البخاري (٦٤٥) .

وبوَّب عليه البخاري: باب مَن صلَّى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلِّمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنَّته. انتهى

وحمل قوله " وما أريد الصلاة " على أنه لم يُرد الصلاة بهم إماماً، وحُمل على أنه لم تكن ذمته مشغولة بصلاة، فصلاها بهم نافلة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

استشكل نفي هذه الإرادة؛ لما يلزم عليها من وجود صلاة غير قُربة، ومثلها لا يصح، وأجيب: بأنه لم يرد نفي القربة، وإنما أراد بيان السبب الباعث له على الصلاة في غير وقت صلاة معينة جماعة، وكأنه قال: ليس الباعث لي على هذا الفعل حضور صلاة معينة من أداء، أو إعادة، أو غير ذلك، وإنما الباعث لي عليه: قصد التعليم، وكأنه كان تعين عليه حينئذ؛ لأنه أحد من خوطب بقوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) - كما سيأتي - ورأى أن التعليم بالفعل أوضح من القول، ففيه دليل على جواز مثل ذلك، وأنه ليس من باب التشريك في العبادة.

" فتح الباري " (٢ / ١٦٣) .

ثانياً:

هذا، ولا يُمنع أن يقوم المعلِّم بشرح الطاعات والعبادات العمليَّة، ولو لم يؤدها على أنها عبادة وقربة، وقد يستدعي منه هذا – مثلاً - أن لا يتجه للقبلة، أو أن يتكلم أثناء الركوع والسجود، موضِّحاً ومعلِّماً، وليس في ذلك ما يُنكر، ومثله من أراد أن يعلِّم الأذان، أو الخطابة.

وعليه: فلا مانع من قيام المعلِّم بتعليم الطلبة مناسك الحج عمليّاً في بعض أفعاله، كتعليمهم كيف يلبسون ملابس الإحرام، وأين يقفون في عرفة، وكيف يدفعون منها، وكيف يدعون في مزدلفة، وهكذا في باقي المناسك التي تحتاج إلى اطلاع على واقعها المكاني، ولا يشترط أن يكونوا محرمين حقيقة – بنزع كامل ملابسهم – ولا أن يتركوا محظورات الإحرام على الحقيقة، كما أنه قد يتم تعليم بعض المسلمين الصلاة بحركاتها العملية ولا يلزم أن يكونوا على وضوء، ولا باتجاه القبلة.

وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:

لي أطفال لم يتجاوز أكبرهم ثلاثة أعوام، يقون خلفي أثناء صلاتي بالمنزل؛ وذلك لأعلمهم كيفية الصلاة، ويكون ذلك بدون وضوء منهم، فهل يجوز ذلك؟ .

فأجاب:

"يجوز للإنسان أن يعلِّم أولاده الصلاة بالقول، وبالفعل، ولهذا لمَّا صنع المنبر للنبي صلى الله عليه وسلم صعد عليه، وجعل يصلي عليه، فإذا أراد السجود نزل وسجد على الأرض، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي) ، وينبغي أيضاً أن يعلَّم هؤلاء الوضوء ما داموا يفقهون، ويفهمون، لكن الذين في السنِّ التي ذكرها السائل - وهو أن أكبرهم له ثلاث سنوات - لا أظنهم يعقلون كما ينبغي، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أن نأمر أولادنا بالصلاة لسبع سنين، وأن نضربهم عليها لعشر" انتهى.

" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (١٣ / جواب السؤال رقم ٦٤٤) .

والأمر في الحج أوسع منه في الصلاة، فالصلاة لا يمكن أن يكون الإمام فيها إلا مصليّاً على الحقيقة – وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ومالك وعمرو – ولا يلزم ذلك من يقود الحجاج إلى المناسك، وهو ما يُسمَّى " المطوِّف "؛ فلا يلزمه أن يكون محرماً فضلا، وهو عندما يعلِّم هؤلاء ويدلهم على المناسك قد ينوي العبادة في الطواف، لكنه لا يستطيع أن ينويها في عرفة ومزدلفة وهو غير محرِم.

قال ابن رجب الحنبلي – شارحاً لحديث مالك بن الحويرث -:

ولا يصح حمل كلامه عَلَى ظاهره، وأنه لَمْ ينو الصلاة بالكلية بل كَانَ يقوم، ويقعد، ويركع ويسجد، وَهُوَ لا يريد الصلاة: فإن هَذَا لا يجوز، وإنما يجوز مثل ذَلِكَ فِي الحج، يجوز أن يكون الَّذِي يقف بالناس، ويدفع بهم غير محرم، ولا مريداً للحج بالكلية، لكنه يكره.

قَالَ أصحابنا وغيرهم من الفقهاء فِي " الأحكام السلطانية ": لأن الوقوف، والدفع يجوز للمحرم، وغيره، بخلاف القيام، والركوع، والسجود: فإنه لا يجوز إلا فِي الصلاة بشروطها.

" فتح الباري " لابن رجب (٤ / ١١٦) .

والخلاصة:

أنه يجوز تعليم الأطفال والشباب مناسك الحج على واقعها المكاني بحقيقتها العملية.

ومن باب الفائدة: فقد منع كثير من أهل العلم صنع مجسَّم للكعبة يُطاف حوله للتعليم، وهذا ليس هو موضوع السؤال؛ لأن السؤال عن الذهاب لأماكن المناسك حقيقة، وليس تمثيلاً لها وتجسيماً لأماكنها.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>