للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يحرم القتال إذا كان مقابل كل شخص أكثر من عشرة؟

[السُّؤَالُ]

ـ[حينما يكثر عدد المعاندين والكافرين في الجهاد كثرة تزيد عن مائتين مقابل عشرين من المسلمين. لا يجوز أن نشارك في الحرب لأن الله تبارك وتعالي عين عددا في الحرب. هل هذا صحيح أم لا؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الثبات في الجهاد، وتحريم الفرار؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الأنفال/١٥، ١٦، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأنفال/٤٥.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. وذكر منها: وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) رواه البخاري (٢٥٦٠) ومسلم (١٢٩) .

إلا أنه يستثنى من ذلك ثلاثة مواضع:

الأول: أن يكون الفرار تحرُّفا لقتال، ويأتي بيان التحرّف.

الثاني: أن يكون الفرار تحيزا إلى فئة من المسلمين، ولو بَعُدَت.

الثالث: أن يزيد عدد الكفار على ضعف المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ. وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة، واستدل الجمهور بقوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال/٦٦.

فلا يجوز لعشرة أن يفروا من عشرين، ولا لمائة أن يفروا من مائتين، فإن زاد الكفار عن الضعف جاز الفرار.

وهذا تخفيف من الله تعالى، وهو نسخ لوجوب مصابرة العشرين للمائتين، والمائة للألف، الوارد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) الأنفال/٦٥.

وقول السائل: إنه لا يجوز أن نشارك في الحرب حينئذ، غير صحيح. ففرق بين قولنا: يجوز الفرار، وقولنا: يجب الفرار أو يحرم القتال. فلو أن المسلمين ثبتوا مع أضعافهم جاز ذلك، وهذا ما كان عليه حال المسلمين في أكثر معاركهم، لا سيما المعارك العظيمة الفاصلة كالقادسية واليرموك.

وينبغي التنبه إلى أنه إن هجم العدو على بلاد المسلمين، وجب الدفع، ولو كان الكفار أضعاف المسلمين، ولا يجوز الفرار حينئذ إلا للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقتال الدفع: مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلّفون من المسلمين. فههنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا. ونظيرها: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتِلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع، لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب " انتهى من "الاختيارات الفقهية" ص ٢٥٨

وإليك كلاما نافعا لابن قدامة رحمه الله، يبين هذه المسألة، ويوضح معنى التحرّف والتحيز، قال رحمه الله: "إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات، وحرم الفرار، بدليل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار) الآية. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف، فعده من الكبائر ...

وإنما يجب الثبات بشرطين: أحدهما: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين، فإن زادوا عليه جاز الفرار، لقول الله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) . وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر، فهو أمر ... قال ابن عباس: نزلت: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء تخفيف فقال: (الآن خفف الله عنكم) إلى قوله: (يغلبوا مائتين) فلما خفف الله عنهم من العدد، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد. رواه أبو داود.

وقال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر.

الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيّز إلى فئة، ولا التحرف لقتال، فإن قصد أحد هذين: فهو مباح له؛ لأن الله تعالى قال: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) . ومعنى التحرّف للقتال: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما، أو من نزلة إلى علو، أو من معطشة إلى موضع ماء، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم، أو ليجد فيهم فرصة، أو ليستند إلى جبل، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب ...

وأما التحيز إلى فئة: فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم، فيقوى بهم على عدوهم، وسواء بعدت المسافة أو قربت. قال القاضي: لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز، جاز التحيز إليها، ونحوه ذكر الشافعي، لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني فئة لكم، وكانوا بمكان بعيد منه، وقال عمر: أنا فئة كل مسلم، وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان. رواهما سعيد.

وقال عمر: رحم الله أبا عبيدة لو كان تحيز إلي لكنت له فئة ".

ثم قال ابن قدامة رحمه الله: "وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين، فغلب على ظن المسلمين الظفر، فالأولى لهم الثبات؛ لما في ذلك من المصلحة، وإن انصرفوا جاز؛ لأنهم لا يأمنون العطب، والحكم عُلق على مظنته، وهو كونهم أقل من نصف عددهم، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه.

ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر؛ لما فيه من المصلحة.

وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة، والنجاة في الانصراف، فالأولى لهم الانصراف، وإن ثبتوا جاز، لأن لهم غرضا في الشهادة، ويجوز أن يغلبوا أيضا" انتهى من "المغني" (٩/٢٥٤) .

وكلامه الأخير واضح في جواز القتال مع القلّة، بل ومع غلبة الظن بحصول الهلاك، خلافا لما ظنه السائل.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>