للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

من عقوبات ترك الجهاد في سبيل الله

[السُّؤَالُ]

ـ[هل هناك عقوبة معينة يستحقها من ترك الجهاد في سبيل الله؟.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

ورد في الأمر بالجهاد في سبيل الله، والترهيب من تركه الكثير من الآيات والأحاديث.

وإذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله، وآثروا حياة الدعة والراحة، وركنوا إلى الدنيا، أصابهم الذل والهوان، وفسدت أمورهم، وعرضوا أنفسهم لمقت الله تعالى وغضبه. وتعرض الإسلام للضياع، وطغيان الكفر عليه. ولذلك كان ترك الجهاد من كبائر الذنوب.

قال ابن حجر في "الزواجر":

(الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة ترك الجهاد عند تعينه، بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلماً وأمكن تخليصه منهم. وترك الناس الجهاد من أصله. وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين) اهـ.

ولذلك صار معلوما ومقررا عند الصحابة أنه لا يقعد عن الجهاد إذا كان فرض عين إلا ضعيف معذور أو منافق، وهذا ما يحكيه كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن تبوك: (فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ) . رواه البخاري (٤٠٦٦) ومسلم (٤٩٧٣) .

وقد بينت تلك الأدلة بعض ما يترتب عليه من عقوبات، فمنها:

١- ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فإن الجبان الرعديد يكون ذليلاً مستعبداً تابعا غير متبوع. وأما في الآخرة فترك الجهاد سبب لعذاب الله تعالى.

قال الله تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة/١٩٥.

روى الترمذي (٢٩٧٢) عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلامَ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلامَ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاحِهَا، وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

قال في "تحفة الأحوذي":

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِلْقَاءِ الْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الإِقَامَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكُ الْجِهَادِ اهـ.

٢- ترك الجهاد سبب للذل والهوان.

روى أبو داود (٣٤٦٢) عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) . صححه الألباني في صحيح أبي داود.

ولقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإن الناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يرى أنهم قد فرطوا في دينهم تفريطا عظيما. . فأكلوا الربا، وركنوا إلى الدنيا، وتركوا الجهاد في سبيل الله. فماذا كانت النتيجة؟!! ألزمهم الله الذل في أعناقهم، فهم يلجأون إلى الشرق أو الغرب خاضعين ذليلين يطلبون منهم النصر على الأعداء، وما عرف أولئك أن الذل لا يرفع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وصدق الله العظيم: (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) النساء/١٣٨-١٣٩.

٣- وترك الجهاد سبب لنزول العذاب في الدنيا والآخرة.

روى أبو داود (٢٥٠٣) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . حسنه الألباني في صحيح أبي داود.

والقارعة هي الدَاهِيَة المُهْلِكَة التي تأتي فجأة , يقال: قَرَعَهُ أَمْرٌ إِذَا أَتَاهُ فَجْأَة.

وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (٣٨) إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التوبة/٣٨-٣٩.

"وليس العذاب الذي يتهددهم هو عذاب الآخرة فقط، بل عذاب الدنيا والآخرة، عذاب الذل الذي يصيب القاعدين عن الجهاد، عذاب الحرمان من الخيرات التي يستفيد منها العدو الكافر ويحرمها أهلها، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الجهاد، ويقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة أضعاف ما كان يتطلبه منها جهاد الأعداء" اهـ. الظلال (٣/١٦٥٥) .

وقال السعدي رحمه الله ص (٥٣٢) :

(يا أيها الذين آمنوا) ألا تعملون بمقتضى الإيمان، ودواعي اليقين، من المبادرة لأمر الله، والمسارعة إلى رضاه، وجهاد أعدائه لدينكم، فـ (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض) أي: تكاسلتم، وملتم إلى الأرض والدعة والكون فيها.

(أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي: ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا، وسعي لها، ولم يبال بالآخرة فأنه ما آمن بها.

(فما متاع الحياة الدنيا) التي مالت بكم، وقدمتموها على الآخرة (إلا قليل) أفليس قد جعل الله لكم عقولاً، تزنون بها الأمور وأيها أحق بالإيثار؟

أفليست الدنيا ـ من أولها إلى آخرها ـ لا نسبة لها في الآخرة.

فما مقدار عمر الإنسان القصير جداً من الدنيا، حتى يجعله الغاية، التي لا غاية وراءها فيجعل سعيه، وكده وهمه وإرادته لا يتعدى الحياة الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار المشحونة بالأخطار.

فبأي رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة، الجامعة لكل نعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون. فوالله ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولى الألباب، ثم توعدهم على عدم النفير فقال:

(إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً)

في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيه من المضار الشديدة فإن المتخلف قد عصى الله تعالى، وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين الله، ولا ذَبَّ عن كتاب الله وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم، الذي يريد أن يستأصلهم، ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل ربما فَثّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء الله، فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده الله بالوعيد الشديد، فقال: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً) فإنه تعالى متكفل بنصرة دينه وإعلاء كلمته، فسواء امتثلتم لأمر الله أو ألقيتموه وراءكم ظهرياً.

(والله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه أحد اهـ.

نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً. وأن يرفع عنهم الذل والهوان.

والله تعالى أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>