للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ينفي عن الله تعالى صفة الوجود بدعوى أن كل موجود لا بد له من موجد أوجده!

[السُّؤَالُ]

ـ[سمعت بعض الناس يقول بأنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه موجود، لأن كلمة "موجود" اسم مفعول، وكل موجود لا بد له من موجد أوجده، وهذا المعنى باطل في حق الله تعالى.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

الواجب على من أراد أن يتكلم في الأمور الشرعية أن يكون كلامه مبنياً على علم صحيح، ومن نفى عن الله تعالى صفة ثابتة له، أو أثبت له صفة لا تليق به لمجرد ظن أو وهم توهمه، فهو على خطر عظيم، قال الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء/٣٦.

ثانياً:

قد ذكرنا في جواب السؤال رقم (١٢٠١٩٠) فتوى علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: في ثبوت هذه صفة الوجود لله تعالى، ونزيد هنا بعض النقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وغيرهما من العلماء.

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

"وهو سبحانه قديم واجب الوجود، رب كل شيء ومليكه، هو الخالق وما سواه مخلوق" انتهى. "بيان تلبيس الجهمية" (١/٣٠٤) .

وقال أيضاً:

"فإن الله موجود حقيقةً، والعبد موجود حقيقةً، وليس هذا مثل هذا" انتهى. "مجموع الفتاوى" (٥/١٩٨) .

وقال أيضاً:

"ولا ريب أن الله موجود قائم بنفسه" انتهى. "مجموع الفتاوى" (٥/٤٢٠) .

وقال أيضاً:

"ومعلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه" انتهى. "مجموع الفتاوى" (١١/٣٩٥) .

وقال ابن القيم رحمه الله:

"تفرد الحق تعالى بالوجود أزلا وأبداً، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، ووجود كل ما سواه قائم به، وأثر صنعه، فوجوده هو الوجود الواجب الحق الثابت لنفسه أزلا وأبدا..... فوجوده تعالى وجود ذاتي.... ليس مع الله موجود بذاته سواه، وكل ما سواه فموجود بإيجاده سبحانه" انتهى بتصرف. "مدارج السالكين" (٣/٣٤) .

ومن هذه النقول يتبين أن قول القائل: كل موجود لا بد له من أحد أوجده غير صحيح، وذلك لأن الوجود نوعان:

الأول: وجود ذاتي، بحيث يوصف الشيء بأنه موجود، ولم يوجده أحد، وهذا هو الوجود الذي يوصف الله تعالى به، ولا يكون لأحد سواه.

والنوع الثاني: وجود بغيره، أي أن الشيء موجود، ولكن أوجده غيره، وهذا هو الوجود الذي يوصف به جميع المخلوقات، فالله تعالى هو الخالق وحده، وكل ما سواه مخلوق، وهو الواجد وحده، وكل ما سواه موجود بهذا المعنى.

وقد سئل الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله: كلمة "موجود" أليس كل موجود لابد له من واجد؟

فأجاب: "لا يقصد هذا، يقصد موجود، أي: هو متصف بصفة الوجود،.... وليس كل موجود يحتاج إلى موجِد، والله موجود" انتهى باختصار من "فتاوى كبار علماء الأمة" ص (٤٣) .

وهو يشير بقوله: "ليس كل موجود يحتاج لموجد"، إلى تقسيم الوجود إلى نوعين كما سبق.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "شرح العقيدة الواسطية"، في معرض رده على من نفى عن الله تعالى الصفات، قال:

"لهذا، كان الإيمان بصفات الله من الإيمان بالله، لو لم يكن من صفات الله إلا أنه موجود واجب الوجود، وهذا باتفاق الناس، وعلى هذا، فلا بد أن يكون له صفة" انتهى.

فإثبات صفة الوجود لله تعالى مما لا ينازع فيه أحد من المسلمين، بل ولا سائر أهل الملل.

ومن أنكر هذه الصفة الثابتة لله تعالى من غلاة أهل البدع، فلم ينكروها للسبب المذكور في السؤال، وإنما أنكروها لأنهم ينكرون جميع الصفات.

قال شيخ الإسلام في "التدمرية" بعد أن ذكر جملة من الآيات التي فيها إثبات صفات الكمال لله تعالى، قال:

"فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة المتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم: فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقا لا حقيقة له في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات.

فإنهم يسبلون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، ووقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات.

وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه [وهو الله تعالى وحده لا شريك له] .

وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدَث ممكن يقبل الوجود والعدم: فمعلوم أن هذا موجود، وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود ها، بل وجود هذا يخصه، ووجود هذا يخصه" انتهى باختصار.

وبهذا الكلام لشيخ الإسلام يتبين أن الوجود والعدم نقيضان، والنقيضان لابد من اتصاف الشيء بواحد منهما، فلا يمكن أن يوصف بهما معاً، ولا أن يخلو منهما معاً، ونفي أحدهما إثبات للآخر بالضرورة.

فليتنبه الذين ينفون عن الله تعالى صفة الوجود، فإنه يلزم من ذلك نفي وجود الله تعالى. وإننا لنتعجب أن يصدر هذا القول من بعض من يزعم أنه من أهل السنة والجماعة وعلى طريقة السلف، وقد أوقعه في هذا الخطأ سببان:

الأول: ظنه أنه لابد لكل موجود من موجِد أوجده، وهو ظن خاطئ كما سبق.

الثاني: عدم الرجوع إلى أهل العلم، وعدم الاستنارة بأقوالهم، وقد قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/٤٣.

ونزيد سبباً ثالثاً: إعجاب المتكلم برأيه، وظنه أنه هدي لما ضل عنه جميع الأمة!

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>