للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حكم وصف القرآن بأنه كلام الله القديم

[السُّؤَالُ]

ـ[ما حكم وصف القرآن بأنه كلام الله القديم؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

القرآن الكريم كلام الله تعالى: ألفاظه وحروفه ومعانيه؛ منه بدأ، وإليه يعود، تكلم الله تعالى به، وسمعه منه جبريل عليه السلام، وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. قال سبحانه: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الواقعة/٧٧- ٨٠، وقال: (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) السجدة/ ١، ٢، وقال: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الزمر/ ١.

وهو من جملة كلامه، الذي هو صفة من صفاته، فمن قال: مخلوق، فهو كافر، هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة، خلافا لما عليه أهل الزيغ والانحراف.

قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " وأن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمّه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: (سأصليه سقر) فلما أوعد الله بسقر لمن قال: (إن هذا إلا قول البشر) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر " انتهى.

وقال ابن قدامة رحمه الله: " ومن كلام الله سبحانه: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت/ ٤٢، وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} الإسراء/ ٨٨.

وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} سبأ /٣١، وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} المدثر/ ٢٥، فقال الله سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} المدثر/ ٢٦ ... ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف " انتهى

"لمعة الاعتقاد" ص (٢٨-٢٢) .

ومعنى قول أهل السنة: " منه بدأ ": أن الله تعالى تكلم به، فظهوره وابتداؤه من الله تعالى.

ومعنى قولهم: " وإليه يعود ": أنه يرفع من الصدور والمصاحف في آخر الزمان، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف كما جاء ذلك في عدة آثار.

وللحافظ ضياء الدين المقدسي (ت: ٦٤٣هـ) رحمه الله رسالة حول هذه المسألة، بعنوان: " اختصاص القرآن بالعود إلى الرحمن ".

ولأهل البدع مقالات أخرى كثيرة مخالفة لما دل عليه صريح المعقول، وصحيح المنقول في هذا الباب، يمكن مراجعتها ومعرفة ردود أهل العلم عليها في كتب أهل السنة المصنفة في هذا الباب، ومنها مصنفات خاصة بالرد على أهل البدع في صفة الكلام، مثل: البرهان في مسألة القرآن، وحكاية المناظرة في القرآن، كلاهما لموفق الدين ابن قدامة، صاحب المغني، رحمه الله، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتب ورسائل عديدة فيما يتعلق بصفة الكلام من مسائل، فيمكن مراجعة المجلد الثاني عشر من مجموع فتاواه، ومن كتبه المهمة في ذلك كتاب التسعينية، رد على الأشاعرة بدعهم في صفة الكلام من نحو من تسعين وجها.

وأما المصنفات المعاصرة، فقد أفرد هذه المسألة بالتأليف الشيخ عبد الله الجديع في كتابه: العقيدة السلفية في كلام رب البرية، وهو كتاب نافع مفيد في بابه.

ثانيا:

وصف القرآن بالقدم، أو وصف كلام الله تعالى بأنه قديم، يراد به معنيان:

الأول: أنه غير مخلوق، كما تقدم؛ وأن جنس الكلام، في حق الله تعالى، قديم، لم يزل متكلما، متى شاء، وكيف شاء، ويكلم من عباده من شاء. وهذا حق، وهذا هو مأخذ من أطلق " القِدَم " في حق القرآن، أو في حق كلام الله تعالى عامة، من أهل السنة.

ومن هؤلاء: أبو القاسم اللالكائي في كتابه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة "

قال (٢/٢٢٤) : " سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة ".

ثم قال (٢/٢٢٧) : " ما روي من إجماع الصحابة على أن القرآن غير مخلوق ".

وممن أطلق ذلك أيضا: ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في لمعة الاعتقاد. قال (١٥) :

" ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، وسمعه جبري عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورونه، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] ، وقال سبحانه: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: ١٤٤] ، وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: ٢٥٣] ، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: ٥١] ، وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: ١١ - ١٢] ، وقال سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: ١٤] ، وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله ... " انتهى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" السلف قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق وقالوا لم يزل متكلما إذا شاء. فبينوا أن كلام الله قديم، أي: جنسه قديم لم يزل.

ولم يقل أحد منهم: إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم.

بل قالوا: إنه كلام الله منزل غير مخلوق.

وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته، كان القرآن كلامه، وكان منزلا منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزليا قديما بقدم الله، وإن كان الله لم يزل متكلما إذا شاء؛ فجنس كلامه قديم.

فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض " انتهى مجموع الفتاوى (١٢/٥٤) .

وقال ـ رحمه الله ـ أيضا:

" وكلام الله: تكلم الله به بنفسه، تكلم به باختياره وقدرته، ليس مخلوقا بائنا عنه. بل هو قائم بذاته، مع أنه تكلم به بقدرته ومشيئته، ليس قائما بدون قدرته ومشيئته.

والسلف قالوا: لم يزل الله تعالى متكلما إذا شاء؛ فإذا قيل: كلام الله قديم ; بمعنى أنه لم يصر متكلما بعد أن لم يكن متكلما، ولا كلامه مخلوق، ولا معنى واحد قديم قائم بذاته ; بل لم يزل متكلما إذا شاء فهذا كلام صحيح.

ولم يقل أحد من السلف: إن نفس الكلام المعين قديم. وكانوا يقولون: القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

ولم يقل أحد منهم: إن القرآن قديم، ولا قالوا: إن كلامه معنى واحد قائم بذاته، ولا قالوا: إن حروف القرآن أو حروفه وأصواته قديمة أزلية قائمة بذات الله، وإن كان جنس الحروف لم يزل الله متكلما بها إذا شاء ; بل قالوا: إن حروف القرآن غير مخلوقة وأنكروا على من قال: إن الله خلق الحروف " انتهى من الفتاوى (١٢/٥٦٦-٥٦٧) .

والمعنى الثاني: أن القرآن معنى، أو معنى وحروف، تكلم الله بها في الأزل، ثم لم يتكلم بعدها، وهذا من بدع الأشاعرة ومن وافقهم من أهل الكلام، التي أرادوا بها الخروج من بدعة المعتزلة والجهمية القائلين بخلق القرآن.

فمن قال في القرآن، أو غيره من صفات الله تعالى وأفعاله الاختيارية: إنه قديم، وأراد ذلك فمراده باطل، ثم إن اللفظ الذي أطلقه مجمل غير مأثور.

ولأجل هذا الاحتمال الباطل الذي يحتمله إطلاق هذا اللفظ، ولأجل أنه غير مأثور، كان الراجح هنا ألا يطلق لفظ القدم على القرآن، بل يقال فيه ما قال السلف: القرآن كلام الله، غير مخلوق.

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

" وأتباع السلف يقولون: إن كلام الله قديم، أي: لم يزل متكلما إذا شاء، لا يقولون: إن نفس الكلمة المعينة قديمة كندائه لموسى ونحو ذلك.

لكن هؤلاء [يعني: الأشاعرة ومن وافقهم] اعتقدوا أن القرآن وسائر كلام الله قديم العين، وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته. ثم اختلفوا:

فمنهم من قال: القديم هو معنى واحد، هو جميع معاني التوراة والإنجيل والقرآن؛ وأن التوراة إذا عبر عنها بالعربية صارت قرآنا، والقرآن إذا عبر عنه بالعبرية صار توراة: قالوا: والقرآن العربي لم يتكلم الله به، بل إما أن يكون خلقه في بعض الأجسام، وإما أن يكون أحدثه جبريل أو محمد؛ فيكون كلاما لذلك الرسول، ترجم به عن المعنى الواحد القائم بذات الرب، الذي هو جميع معاني الكلام.

ومنهم من قال: بل القرآن القديم هو حروف، أو حروف وأصوات، وهي قديمة أزلية قائمة بذات الرب أزلا وأبدا ... ؛ إذا كلم موسى أو الملائكة أو العباد يوم القيامة فإنه لا يكلمه بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته حين يكلمه، ولكن يخلق له إدراكا يدرك ذلك الكلام القديم اللازم لذات الله أزلا وأبدا.

وعندهم لم يزل ولا يزال يقول: {يا آدم اسكن أنت وزوجك} و: {يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك} و {يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ونحو ذلك وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في مواضع.

والمقصود أن هذين القولين لا يقدر أحد أن ينقل واحدا منهما عن أحد من السلف؛ أعني الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين، الذين لهم في الأمة لسان صدق، في زمن أحمد بن حنبل ولا زمن الشافعي ولا زمن أبي حنيفة ولا قبلهم. وأول من أحدث هذا الأصل هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ... " الفتاوى (١٧/٨٥)

وعليه فمن قال: القرآن قديم، أو كلام الله قديم، وأراد المعنى الأول: أن القرآن، وسائر كلام الله تعالى، منزل من عنده غير مخلوق، ومع ذلك فهو متعلق بمشيئته واختياره، فمراده صحيح، وإن كان الأولى والأسلم في ذلك أن يقتصر على الألفاظ الواردة عن السلف، السالمة من الإجمال واحتمال المعاني الباطلة.

وإن أراد المعنى الثاني ونفى أن يتعلق كلام الله تعالى بمشيئته واختياره، فمراده باطل، واللفظ الذي أطلقه ـ أيضا ـ مبتدع.

وانظر أيضا: منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (٥/٤١٩-٤٢١) .

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>