للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حكم التحاكم إلى العادات والأعراف القبلية

[السُّؤَالُ]

ـ[إذا زنى رجل بامرأة، تقوم القبائل بتعويض أهل البنت بمال يقدره العرف القبلي، علما أن هذا المال يشاركه في دفعه قبيلته، ما حكم المشاركة في دفع هذا المبلغ إن كنت من قبيلة الفاعل، وما حكم أخذ هذا المال إن كنت من قبيلة البنت. علما أنّ هذا البلد يحكمه نصراني ولا يحكم فيه بما أنزل الله، ولذلك تلجأ القبائل للحكم القبلي مع ما فيه من حكم بغير ما أنزل الله.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

هذا التعويض المالي له صورتان:

الأولى: أن يكون خاصا بحالة الإكراه على الزنا، فيُلزم الزاني بدفع المهر للمزني بها المكرهة على ذلك، أو بدفع المهر مع أرش البكارة – إن كانت بكرا -، عند من يقول بذلك، وأرش البكارة هو الفرق بين مهر البكر والثيب.

على أن يكون هذا المال واجبا على الزاني، مع إقامة الحد عليه، ويعطى للمزني بها، التي ثبت إكراهها على الزنا.

وإذا كان الأمر كذلك، فهذا لا إشكال فيه، بل هو من تحكيم الشرع، ولو وافق العادة والعرف.

ولو فرض أنهم عجزوا عن إقامة الحد، واستطاعوا إلزام الزاني بدفع المهر للمكرهة، لكان هذا سائغا، فإن مالا يدرك كله لا يُترك جُلّه، وقد قال الله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) .

وأما إلزام القبيلة بدفع المهر أو المشاركة فيه، فلا وجه له، بل هو واجب في مال الزاني كما سبق، ومساعدته في دفعه يعني تسهيل القضية وترويج الزنا. ويأتي بيان الخلاف في وجوب المهر والأرش.

الصورة الثانية: أن يكون ذلك نظاما متبعا في جميع حالات الزنى، لا فرق بين من أكرهت عليه، ومن طاوعت فيه، وتلزم القبيلة بمشاركة الزاني في دفع هذا التعويض، ويعد ذلك حكما عاما ترجع إليه القبائل فيما بينها، فهذا تنظيم وتقنين لمهور البغايا؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ) رواه مسلم (١٥٦٨)

وقال: (لا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَلا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَلا مَهْرُ الْبَغِيِّ) رواه النسائي (٤٢٩٣)

ومن البين أن هذا الحكم القبلي، أو ما يسمى بالسلوم، هو من أحكام الجاهلية، التي لا يجوز الحكم بها، ولا التحاكم إليها، ولا الإعانة عليها؛ لقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/٤٩، ٥٠، وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة/٤٤، وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) النساء/٦٠، وقوله: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء/٦٥. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه من أحكام الجاهلية.

وقد حكم الله تعالى وشرَع أن يجلد الزاني إذا كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا، رجلا كان أو امرأة، فكل حكم يخالف هذا فهو من أحكام الجاهلية، التي يجب البراءة منها، والسعي في إبطالها.

وقد نص أهل العلم على أن التحاكم إلى سلوم البادية، وأعراف القبائل المخالفة للشريعة المحمدية، أن ذلك من الكفر.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: " (السادس) [أي من أنواع الكفر الأكبر في مسألة تحكيم القوانين] : ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها " سلومهم " يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به ويحملون على التحاكم إليه عند النزاع، بناء على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبة عن حكم الله ورسوله فلا حول ولا قوة إلا بالله " انتهى من رسالة "تحكيم القوانين".

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في رسالة له بعنوان: " حكم التحاكم إلى العادات والأعراف القبلية

من عبد العزيز بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لمعرفة الحق واتباعه آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . . أما بعد.

فالداعي لهذا هو الإجابة عن أمور سأل عنها بعض الإخوة الناصحين في المملكة؛ حيث ذكر أنه يوجد في قبيلته، وفي قبائل أخرى عادات قبلية سيئة ما أنزل الله بها من سلطان منها: -

ترك التحاكم إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى عادات قبلية وأعراف جاهلية.

منها كتمان الشهادة، وعدم أدائها حمية وتعصبا، أو الشهادة زورا وبهتانا، حمية وعصبية أيضا. إلى غير ذلك من الأسباب التي قد تدعو بعض الناس إلى مخالفة الشرع المطهر.

ولوجوب النصيحة لله ولعباده أقول وبالله التوفيق:

يجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، لا إلى القوانين الوضعية والأعراف والعادات القبلية. قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا وقال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .

فيجب على كل مسلم أن لا يقدم حكم غير الله على حكم الله ورسوله كائنا من كان، فكما أن العبادة لله وحده، فكذلك الحكم له وحده، كما قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ) .

فالتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، وفي كفر صاحبه تفصيل، قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ؛ فلا إيمان لمن لم يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أصول الدين وفروعه، وفي كل الحقوق، فمن تحاكم إلى غير الله ورسوله، فقد تحاكم إلى الطاغوت.

وعلى هذا يجب على مشايخ القبائل، ألا يحكموا بين الناس بالأعراف التي لا أساس لها في الدين، وما أنزل الله بها من سلطان. . بل يجب عليهم أن يردوا ما تنازع فيه قبائلهم إلى المحاكم الشرعية، ولا مانع من الإصلاح بين المتنازعين بما لا يخالف الشرع المطهر، بشرط الرضا وعدم الإجبار. . لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) ، كما يجب على القبائل جميعا ألا يرضوا إلا بحكم الله ورسوله.... " انتهى من "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (٥/١٤٢) .

وسئلت "اللجنة الدائمة للإفتاء" ما نصه: " س: ما الحكم إذا تخاصم اثنان مثلا وتحاكما إلى الأحكام العرفية، فمثلا يضع كل منهما معدالا، كما يسمونه، ويرضون من مشايخ القبائل من يحكم بينهما، ويجلسان بين يديه، ويبث كل منهما دعواه ضد الآخر، فإذا كانت القضية بسيطة حكم فيها بذبيحة على المخطئ يذبحها لخصمه، وإذا كانت القضية كبيرة حكم فيها (بجنبية) أي: كانوا في القدم يضربونه على رأسه بآلة حادة حتى يسيل دمه، ولكن اليوم تقدر (الجنبية بدراهم) ويسمون هذا: صلحا، وهذا الشيء منتشر بين القبائل ويسمونه: مذهبا، بمعنى: إذا لم ترض بفعلهم هذا فيقولون عنك: (قاطع المذهب) ، فما الحكم في هذا يا فضيلة الشيخ؟

ج: يجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى الشريعة الإسلامية، لا إلى الأحكام العرفية، ولا إلى القوانين الوضعية، وما ذكرته ليس صلحا في الحقيقة، وإنما هو تحاكم إلى مبادئ وقواعد عرفية ; ولذا يسمونها: مذهبا، ويقولون لمن لم يرض بالحكم بمقتضاها: إنه قاطع المذهب، وتسميته صلحا لا يخرجه عن حقيقته من أنه تحاكم إلى الطاغوت، ثم الحكم الذي عينوه من الذبح أو الضرب بآلة حادة على الرأس حتى يسيل منه الدم ليس حكما شرعيا.

وعلى هذا يجب على مشايخ القبائل ألا يحكموا بين الناس بهذه الطريقة، ويجب على المسلمين ألا يتحاكموا إليهم، إذا لم يعدلوا عنها إلى الحكم بالشرع، واليوم -ولله الحمد- قد نصب ولي الأمر قضاة يحكمون بين الناس، ويفصلون في خصوماتهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحلون مشكلاتهم بما لا يتنافى مع شرع الله تعالى، فلا عذر لأحد في التحاكم إلى الطاغوت بعد إقامة من يتحاكم إليه من علماء الإسلام ويحكم بحكم الله سبحانه.

وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، انتهى.

وإذا كان الأمر كذلك: فلا يجوز لك أن تشارك في هذا الحكم، ولا في دفع المال، أو أخذه، بل يجب أن تبرأ من ذلك، كما يجب أن تنصح لهؤلاء، وتبين لهم خطر ما هم عليه من تحكيم غير الشرع، وأنه لا عذر لهم في ذلك، ولو كان حاكمهم نصرانيا لا يطبق أحكام الله، وعليهم أن يتناصحوا فيما بينهم ويسعوا إلى تطبيق أحكام الشريعة قدر استطاعتهم، وما عجزوا عن تطبيقه فلا يجوز لهم إحداث حكمٍ فيه، مهما رأوا فيه من المصلحة، وإلا كانوا مشرّعين آثمين مبتغين في الإسلام سنة الجاهلية.

ثانيا:

ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المرأة إذا أكرهت على الزنا، فإن الزاني يلزم بمهر مثلها.

فإن كانت بكرا، فهل لها مع المهر أرش البكارة؟

ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، لكن المذهب المعتمد عند الحنابلة هو عدم وجوب أرش البكارة، وإنما تأخذ المكرهة على الزنا مهر المثل فقط.

ونبه المالكية على أن هذا المهر لا تتحمله العاقلة، لأن الزنى من باب العمد، لا الخطأ.

وخالف الحنفية فلم يوجبوا مهرا للمكرهة على الزنا، بكرا كانت أو ثيبا.

وهو رواية عن أحمد رحمه الله، اختارها شيخ الإسلام، وقال عن المهر: إنه خبيث.

ثالثا:

لو أكرهها على الزنا، فأفضاها، فإنه يلزمه المهر، مع الضمان، واختلف في تقديره، فالحنفية والحنابلة على أنه ثلث الدية، والمالكية على أن فيه حكومة عدل، والشافعية على أن فيه الدية كاملة، ووافقهم الحنفية فيما إذا أفضاها فلم تمسك البول.

وينظر: "المبسوط (٩/٥٣) ، المنتقى للباجي (٧/٧٧) ، التاج والإكليل (٨/٣٤٢) ، مغني المحتاج (٤/٧٥) ، المغني (٧/٢٠٩) ، (٨/٣٧٣) ، الإنصاف (٨/٣٠٦- ٣٠٨) ، الموسوعة الفقهية (٥/٢٩٧) ، (٢١/٩٥) ".

والإفضاء: إزالة الحاجز بين مخرج البول ومحل الجماع.

والحاصل: أن دفع المهر للمكرهة على الزنا، أو دفع المهر وأرش البكارة، للبكر المكرهة على الزنا، إنما يكون في مال الزاني، ولا تتحمله العاقلة، ويذهب للمرأة المزني بها، وليس إلى عاقلتها، وأما المطاوعة على الزنى فلا شيء لها.

وهذا كله بعد ثبوت الزنا وإقامة الحد. وبهذا يظهر الفرق بين ما ورد في الشرع، وبين ما يحكّم من العادات والأعراف القبلية.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>