للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوله " عليهم وقتر الحلم "، أراد أنهم يحلمون في المعاملة، ويتوقرون مع من يجر الجرائر عليهم، فصغارهم لهيبتهم في النفوس كالكهول من غيرهم؛ وإن حملوا على جهلٍ في وقتٍ، بأن يصير مجاذبهم عادياً طوره، لم يفارقهم الحلم أيضاً، بل يكافئون المسيء على قدر إساءته. ثم إن آثروا استعمال الجهل لأمرٍ يوجب ذلك فاستمروا فيه واشتطوا عظم البلاء بهم فلم يطاقوا.

ويقال أثرت الشيء وآثرت بمعنى.

هم الجبل الأعلى إذا ماتناكرت ... ملوك الرجال أو تخاطرت البزل

ألم تر أن القتل غالٍ إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطنٍ رخص القتل

لنا فيهم حصنٌ حصينٌ ومعقلٌ ... إذا حرك الناس المخاوف والأزل

لعمري لنعم الحي يدعو صريخهم ... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكل

وصفهم بعلو الشان وارتفاع االمكان، فقال: هم الركن الأرفع، والطود الأمنع، وقت مداهاة الرجال بعضهم بعضاً، ومناكدة الأملاك حالاً فحالاً، فلا يغالب رأيهم، ولا يحللعقدهم، ولا يبلغ غورهم، ولا يستقصر مكرهم. فقوله " تناكرت " تفاعل من النكر الداهية؛ وهو حسن. ويجوز أن يكون تفاعل من الإنكار، فيكون تناكرت ضد تعارفت، أي ينكر بعضهم بعضاً، لما ينطوي عليه كلٌ لصاحبه من سوء الرأي وإضمار الشر.

وقوله " أو تخاطرت البزل " هو تفاعل من الخطران، وهو إشالة الأذناب وإدارتها عند الهياج، وهذا إشارةٌ إلى المتحاربين المتجاذبين إذا تدافعوا بأركانهم، كما أن قوله " تناكرت ملوك الرجال " يريد إذا تداهوبمكايدهم. فيريد أنهم يعلون رؤساء الناس قولاً وفعلاً، ومطراً ودهياً.

وقوله " ألم تر أن القتل غالٍ إذا رضوا "، يريد أن من أوى إليهم واستنام إلى جانبهم، فاستعطف هواهم وحصل رضاهم، أمنن وأعز فلا يلحقه قصدٌ، وسلم على الدهر فلا يجري عليه جور؛ ومن عدل عنهم واستن في سنن غضبهم، عرض بنفسه وتعجل الطمع من كل أحدٍ فيه، فقتله يسهل ويرخص إذا قتل المتعزز بهم يصعب أو يغلو ثم قال: " لنا فيهم حصنٌ حصين "، يصف ما عمهم من الأنمنة فيهم وبمكانهم. فيقول: هم لنا معقلٌ حريز وحصن حصين، في وقتٍ يقلق الناس فيه، لاستيلاء الخوف عليهم، واستعلاء القحط والبالاء فيهم. والأزل: الضيق.

<<  <   >  >>