للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خوى المسجد المعمور بعد ابن دلهمٍ ... وأمسى بأوفى قومه قد تضعضعوا

ابن دلهمٍ كان السبب في عمارة المسجد الذي أشار إليه، فلما مضى لسبيله صار المسجد خالياً إذ كان هو المراعي والمتفقد لصلاح أمره. وأوفى - يعني الذي يرثيه - كان قوام أمر عشيرته به، وانتظام شئونهم بمكانه، فلما ثل عرشه وأصيبوا به اضطربت أحوالهم، واتضعت رتباتهم، فصاروا بعده كالمسجد المعمور بعد ابن دلهمٍ. أراد أن يشبه تضعضع القوم بموت أوفى، بخراب المسجد بموت ابن دلهم فلم يأت بلفظ التشبيه إذ كان معناه من الكلام مفهوماً. والضعضعة: الخضوع والتذلل.

فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع

القرح والقرح لغتان في عض السلاح وما يجرح في الجسد. ويقال إنه لقرحٌ قريحٌ، وقرح قلبه من الحزن. ونبه بهذا الكلام على أن الجزع بأوفى لم يزله ما تعقبه من المصائب، ولكنه زاده اشتداداً، ثم شبهه بالقرح وهو الجرح، وقد جلب ويبس، إذا نكئ وقرح ثانياً، أي أدمي وقشرت جلبته كما أن القرح إذا فعل به ذلك كان إيجاعه أشد وأبلغ، فالهلع بموت أوفى وقد أمد بمصابٍ آخر يكون أتم وأكمل. وقوله أوجع موضوعٌ موضع أشد إيجاعاً.

فإن قيل: كيف صلح ذلك، وأفعل الذي للمبالغة والتفضيل يتبع ما أفعله وكذلك أفعل به، وفعل التعجب يجب أن يكون من الثلاثي لا غير: فَعَل وفَعُل وفَعِلَ، وأوجعني ليس منها؟ قلت: ذلك سائغٌ على مذهب سيبويه، إذ كان عنده أن فعل التعجب يكون من الثلاثي ومما كان على أفعل خاصة، على ذلك حكي قولهم: ما أعطاه للمال، وما آتاه للخير، وإنما هما من الإيتاء والإعطاء، لا من الأتي والعطاء، وكذلك قولهم: ما أسداه للمعروف، وذلك لكثرة وجوه الشبه بين فعل وأفعل، ألا ترى أنهما يتفقان في معنىً، وأه يقال في مفعولهما مفعولٌ، وفي فاعلهما فاعل، وأن كل واحدٍ منهما يقع في مطاوعة الآخر، إلى غير هذا من الشبه. وكان أبو العباس المبرد يقول: ذلك جائزٌ على حذف الزوائد، يعني بناء التعجب من أفعل ويشبهه بقول الشاعر:

يكشف عن جمامه دلو الدال

<<  <   >  >>