للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قوله أبعد بني عمرو أسر بمقبل كأنه قال منكراً مستقبحاً. يريد أسر بعد أ، فجعت بهؤلاء القوم بقدر يساعد، أو عيش يقبل، أو زمان يطاوع، أو أحزن في إثر فائت، أو أجزع لتولي مدبر. والمعنى: أن السرور كان يتصل بحياتهم، والغم كان يحذر مخافة أن يكون فيهم، وإذا قد مضوا لسبيلهم فلا شيء من أعراض الدنيا يلحق له حبور إذا نيل، ولا شيء من أعلاق المنى يحزن له إذا أفيت.

وقوله وليس وراء الشيء شيء يرده عليك أي يرجعه إليك. فالاعتصام بحبل الصبر هو الأولى؛ والأحب ديناً ودنيا، فاصبر وقوله سوى الصبر موضعه من الإعراب استثناء خارج، لأن الصبر ليس من الشيء الراد الفائت في شيء، فقد انقطع مما قبله.

سلام بني عمرو على حيث هامكم ... جمال الندي والقنا والسنور

أولاك بنو خير وشر كليهما ... جميعاً ومعروف ألم ومنكر

لما استسلم للجزع وما اعتاده من الهلع، وصبر نفسه مسلياً، وتتبع أثر المصيبة معفياً، حياهم فقال: عليكم التحية من الله يا بني عمرو حيث قرت هامكم. وهامكم ترتفع بالابتداء وخبره محذوف، كأنه قال: حيث هامكم حاصلة موجودة. والجملة أضيف إليها حيث لينشرح بها، لأن حيث يقتضي جملتين، فهي في الأمكنة مثل حين في الأزمنة. ثم قال جمال الندى أي أذكر جمال المجلس يوم الحفل، وزين السلاح غداة الروع، فانتصب جمال على الاختصاص والمدح. وذكر الهام على عادة العرب، في زعمهم أن عظام الموتى تصير هامة تطير. والندي والنادي: المجلس. ويقال: نداهم المجلس، أي جمعهم، فانتدوه.

وقوله أولاك بنو خير وشر كليهما إيذان منه بأنهم كانوا مستصلحين لكل ما يعن ويحدث من السراء والضراء، فكانوا بني الخير لاستدرار المنافع من مالهم وجاههم، وبني الشر لاستدفاع البلايا ببأسهم. وكانوا يسعدون مواليهم ببرهم وتفقدهم، ويشقون معاديهم بحدهم وسطوتهم. وقوله كليهما جميعاً انجر كليهما على البدل من خير وشر، ولا يجوز أن يكون توكيداً لهما، لأن توكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه. والكوفيون يجوزون توكيد ما يدخله التجزئة من النكرات، يقولون: قرأت كتاباً كله، وأكلت رغيفاً كله، على التوكيد. وأصحابنا البصريون يجيزون الكلام بمثل هذا، ولكنهم يمتنعون من إجراء الآخر على الأول على طريق التأكيد ويجعلونه بدلاً،

<<  <   >  >>