للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا المرء أعيته المرورءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد

وكأن رأينا من غنى مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد

قوله (إذا المرء أعيته) بعث وتحضيض على النهوض في طلب المعالي في ابتداء النشء، وحين كان في القوة فضلة، وفي العمر مهلة، حتى تتلاقى أوائل عمره وأواخرهفي طلب الرياسة، وإقامة المروءة، وأنه إن دافع بما عليهفي ذلك وماطل انتظاراً لأحوال تجتمع له، فاكتهل ولما تساعده تلك الأحوال فإنه يتعذر عليه طلبها، ويشتد عليه إدراكها. وانتصب (ناشئاً) على الحال، والعامل فيته أعيته. ويقال: فتى ناشىء، أي شاب. قال الخليل: ولا يوصف به الجارية. والناشئة: أول الوقت، من هذا. وينتصب (كهلاً) على الحال أيضاً، والعامل فيه مطلبها، لأن المعنى مطلبه لها وهو كهل، فالمصدر مضاف إلى المفعول، أو مطلبه لها إذا كان كهلاً، ومثله: هذا تمراً أطيب منه بسراً.

وقوله (وكائن رأينا) كائن بمعنى كم. وكأنه أخذ يفضل الفر إذا جرى صاحبه في محمود الطرائق من التجمل، والإكتفاء والتعفف، على الغنى وصاحبه يبطر، ويطفى ويأشر، ثم لا يؤدي حق النعمة عليه، فقال: كم من غنى ساعدته الدنيا والأقدار، ثم أصبح مذمماً حين لم يلتزم شروط محمود الغنى، وكم من فقير قوم لما جرى في ميدان العفاف والتجمل، والرضا بماله والتشكر، مات وهو حميد الطريقة، رضى السريرة. والصعلوك: الفقير. ويقال: صعلكته، أي ذهبت بماله كله.

وقال بعضهم:

وأضحت أمور الناس بغشين عالماً ... بما يتقى منها وما يعتمد

جدير بإلا أستكين ولا أرى ... إذا الأمر ولى مدبراً أتبلد

قوله (يغشين عالماً) أي يغشين منى عالماً، لأن العالم هو هو، فحذف منى. والمعنى: إني باشرت الأمور العظيمة، ولا بست الخطوب الجليلة، فصرت بطول تجربتي، واتصال ممارستي، عالماً من أمور الناس إذا وردت أخبارها على بما يتحامى منها ويحذر، وما يتمنى منها فيطلب. فلا جرم أني خليق بألا أضرع عند نوائب الدهر

<<  <   >  >>