للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[هل خلت الأرض زمنا ممن يقيم حجة الله على خلقه]

[السُّؤَالُ]

ـ[عندي سؤال قد حيرني كثيراً: إذا كان الله قد خلقنا لسبب واحد فقط وهو أن نعبده، ووضح لنا نحن المسلمين كيف نعبده في القرآن والسنة، فلماذا حجب الله هذه الحقيقة المحورية عن الملايين من الناس من الذين لم تبلغهم رسالة الإسلام ولا النصرانية ولا اليهودية، كسكان أمريكا وأستراليا الأصليين والذين كانوا معزولين عن العالم لمدة قرون؟ فهل هذا يعني أنهم عاشوا حياتهم كلها حائرين لا يدرون أنهم خلقوا ليعبدوا الله؟ هل يمكن أن الله أهملهم فلماذا لم يهملنا نحن كذلك؟ إني أسألكم هذا السؤال وكأني أعلم مسبقا إجابتكم عليه، فإما ستقولون إن الله قد بعث فيهم أنبياء ورسلا ولكنهم لم يؤمنوا، وهذا بالنسبة لي جواب غير مقنع، لأن القرآن والسنة يخبران أن محمدا هو آخر الرسل والأنبياء، وهؤلاء الناس ظلوا معزولين قرونا بعد البعثة حتى اكتشفهم الأوروبيون في القرن ١٦، ١٧، و ١٨م ولا زال البعض منهم إلى اليوم معزولين عن الحضارة في غابة الأمازون ونيو غيني وبعض الجزر في ساحل الهند، يعبدون الأوثان والظواهر الطبيعية، لا يعلمون أي شيء عن الإسلام ولا النصرانية ولا قصص الأنبياء ولا قصة الخلق كما نعرفها نحن، فهذا يعني أن علينا أن نؤمن نحن المسلمين أن هؤلاء الشعوب عاشوا لمدة تزيد عن ١٠٠٠ سنة بدون أن يبعث فيهم أحد ليذكرهم بسبب خلقهم، وإما ستقول أن هذه مشيئة الله، وهذا كذلك ليس جوابا مقنعا، لأن لا أحد منا يعلم مشيئة الله كي يحتج بها. فالمرجو إجابة سؤالي هذا بطريقة منطقية لأني لا يمكن أن أؤمن أن الله قد أهمل الملايين من الناس وتركهم يعيشون في تخبط لا يدرون لماذا وجدوا في هذا الكون، بينما فضّل آخرين وأخبرهم عن سبب خلقه لهم ووضح لهم طريقة الحياة المثالية السعيدة!؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أصاب السائل الكريم في اعتقاده أن الله تعالى لم يخلق الكون لعبا، ولا العباد عبثا، ولن يتركهم سدى، ولكن ينبغي له أن يعيد النظر والبحث في المعلومة الأساسية التي بنى عليها إشكاله، وهي أن الأوربيين هم الذين اكتشفوا ما يسمى بالعالم الجديد، وأن سكان هذه المناطق كانوا منعزلين عن العالم قبل هذا الاكتشاف المزعوم، وبالتالي لم تبلغهم دعوة الرسل ولا شيء من الوحي على أيدي الرسل ولا أتباعهم. فقد تزايدت الدراسات التاريخية الموثقة التي تؤكد أن الرحالة المسلمين سبقوا كريستوفر كلومبس لاكتشاف الأمريكتين، ومن ذلك ما أصدره الدكتور يوسف ميرو في دراسة حديثة بالإنجليزية تفيد أن كثيرًا من المؤرِّخين يؤكدون أن المسلمين وصلوا إلى شواطئ أمريكا قبل كولومبس بـ ٥٠٠ عام، وقد ذكر كولومبس نفسه في رسائله ومذكراته أنه رأى جزيرة حمراء (في رحلاته لأمريكا) يحكمها رجل عربي ينادى بأبي عبد الله، كما اكتشف أن أهالي جزيرة سان سلفادور يتكلّمون ببعض الكلمات ذات العربية مع بعض التحريف في النطق، وذكر أنه رأى في الهندوراس قبيلة سوداء مسلمة يطلق عليهم لقب إمامي. وفي مذكراته الشخصية ذكر كولومبس أنه شاهد مسجدًا في كوبا فوق رأس جبل، وقد كتب المؤرِّخ الأمريكي وينر (يشغل منصب أستاذ للتاريخ بجامعة هارفرد) يقول: إن كولومبس فهم أنه كان يوجد مسلمون في العالم الجديد، وانحدروا من غرب إفريقيا، وانتشروا من الكاريبي إلى مناطق مختلفة في شمال وجنوب أمريكا، وأضاف وينر أن مجموعات من هؤلاء التجار تزاوجوا مع هنود الأمريكتين.. .

ونحن ننصح السائل الكريم أن يطلع على تفصيل ما سبقت الإشارة إليه للأهمية على الروابط التالية:

http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=١٠١٢٤٢١

http://www.islamichistory.net/forum/showthread.php?t=٢٣٥٩

http://٢٠٩.٨٥.٢٢٩.١٣٢/search?q=cache:p٥٥ggziu٠٠wJ:www.arab-eng.org/vb/t١٠٩١٩٧.html

http://www.imanway١.com/horras/showthread.php?t=١٢٨٨٥

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد نص القرآن الكريم على أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وما من قوم إلا ولهم هاد، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ. {فاطر:٢٤} ، وقال عز وجل: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ. {الرعد:٧} . فالأمم التي لم يرسل لها رسول بخصوصها لم تعدِم نُذرا وهداةً من أتباع الرسل يقيمون عليهم حجة الله الرسالية، فإن الله تعالى لا يؤاخذ أحداً ولا يعذبه إلا بعد قيام هذه الحجة عليه، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ً. {الإسراء:١٥} . وقال عز وجل: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون. َ {التوبة:١١٥} .

قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى. انتهى.

ولذلك عُذر من عُذر ممن لم تبلغه الدعوة، أو بلغته وهو غير مهيأ للتكليف بها، كما جاء في الحديث: أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر. وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما. رواه أحمد، وصححه الألباني.

وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: ٣١٩١، ٣٧٤٨٥، ٢٩٣٦٨، ١١٥١٧٩.

ولا تعارض بين وجود أهل فترة من الرسل وبين ما سبق من كون كل أمة خلا فيها نذير، وأن لكل أمة هاديا.

قال الشيخ العثيمين في شرح كتاب التوحيد: نعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل لكل أمة رسولاً تقوم به الحجة عليهم، كما قال تعالى: رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذورن، لأنهم يقولون: يا ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى. فلا بد من رسول يهدي به الله الخلق. فإن قيل: قوله تعالى: على فترة من الرسل. يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول، فهل قامت عليهم الحجة؟ فالجواب: إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام طويلة، وقد قامت عليهم الحجة لأن فيها بقايا، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه: إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. وكما قال تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ. انتهى.

وقال الألوسي في تفسير قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ. {يس:٦} : المعنى: ما أنذر آباءهم رسول، أي لم يباشرهم بالإنذار، لا أنه لم ينذرهم منذر أصلا، فيجوز أن يكون قد أنذرهم من ليس بنبي كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة، فلا منافاة بين ما هنا، وقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. وليس في ذلك إنكار الفترة المذكورة في قوله تعالى: على فترة من الرسل. لأنها فترة إرسال وانقطاعها زمانا لا فترة إنذار مطلقا. انتهى.

وتبسيطاً للكلام المتقدم نقول إنه لا يلزم من الآية الكريمة: ... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ. {فاطر:٢٤} . أن يكون في محل أمة نذير يشافههم بالرسالة بل قد يذهب النبي وتبقى شريعته أو أتباعه يبلغون رسالته.

ومما يؤيد ذلك أن إندونيسيا ـوهي أكبر دولة إسلامية من حيث السكان، حيث يتجاوزون ٢٠٠ مليون مسلم- دخلها الإسلام عن طريق التجار والدعاة المسلمين القادمين من الهند وجزيرة العرب في القرن السادس الهجري، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: ١٠٨٧٧٢. فهؤلاء التجار هم في الحقيقة من الهداة والنذر الذين قامت بهم حجة الله على أهل هذه البلاد وإن لم يكونوا من المرسلين.

وأما قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُول ٌ. {يونس:٤٧} .

فقال ابن عاشور في تفسيره: جملة {لكل أمة رسول} ليست هي المقصود من الإخبار بل هي تمهيد للتفريع المفرع عليها بقوله: {فإذا جاء رسولهم} إلخ، فلذلك لا يؤخذ من الجملة الأولى تعين أن يرسل رسول لكل أمة لأن تعيين الأمة بالزمن أو بالنسب أو بالموطن لا ينضبط، وقد تخلو قبيلة أو شعب أو عصر أو بلاد عن مجيء رسول فيها ولو كان خلوها زمناً طويلاً. وقد قال الله تعالى:.. لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فالمعنى: ولكل أمة من الأمم ذوات الشرائع رسول معروف جاءها مثل عاد وثمود ومدين واليهودِ والكلدان. والمقصود من هذا الكلام ما تفرع عليه من قوله:.. فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ. انتهى.

وانظر للأهمية في ذلك الفتويين: ١٢٢١٢٣، ٦٣٣١٤.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٠١ ذو القعدة ١٤٣٠

<<  <  ج: ص:  >  >>