للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[توبة الله على العصاة تظهر آثار أسمائه وصفاته في خلقه]

[السُّؤَالُ]

ـ[هل من يستهزئ بالخالق بأشد طرق الاستهزاء وأقبحها يستحق المغفرة والتوبة إذا تاب؟ وهل يوفقه الله إلى التوبة إذا كان هذا الشخص فعلا تائبا نادما؟ أنا أعرف أن الله رحمته واسعة والقنوط كفر، لكن ما الحكمة من قبول الله توبة مثل هؤلاء الذين يتجرؤون على الله بهذه الأشياء؟ وهل الكفر درجات أي كفر شديد وغير شديد أم كله كفر بنفس الدرجة؟ وهل ممكن أن يصبح من أولياء الله الصالحين؟ وأريد أن أعرف من هو أشد كفرا أبو جهل أم فرعون الذي ادعى الألوهية؟ وهل كان من الممكن أن يقبل الله توبة فرعون في حال توبته؟ لا أريد فتاوى أخرى أريد فتوى عن هذه بالذات.]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فعلى المسلم أن يعتقد أن الله تعالى يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأنه لا يظلم أحداً من خلقه، وأنه تعالى لم يخلق الكون لعبا، ولا العباد عبثا، ولن يتركهم سدى، فكل أفعاله تعالى منطوية على الحكمة التامة، وأن مبنى الدين على الإيمان بالغيب، وإثبات كل أنواع الكمال المطلق لله تعالى، ونفي كل أنواع النقص عنه سبحانه، والعقل الإنساني مهما أوتي من قوة وإدراك فهو محدود للغاية، فهو يجهل كثيرا من أسرار نفسه فضلا عن الخلق والكون من حوله، فكيف يستطيع هذا الإنسان الضعيف الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، وخلقه وأمره، وقد سبق بيان هذا في الفتوى قم: ١١٨٢٠٠.

وأما سب الله تعالى والاستهزاء به فكفر مخرج من الملة والعياذ بالله، بل هو أقبح أنواع الكفر وأسوؤها، ومع ذلك فمن تاب منه فجمهور أهل العلم على صحة توبته، وقد سبق بيان ذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: ٧٦٧، ٤٤٣٥٦، ٥٣٨٧٤. كما سبق في الفتوى رقم: ١١٨٣٦١. ذكر أقوال أهل العلم في من سب الله تعالى، وبيان أنه لا فرق في قبول التوبة النصوح بين المجاهر بالسب والمسر به، وبين المحارب للإسلام وغير المحارب، فمن تاب توبة صحيحة قبلت توبته مهما كان جرمه وعظم ذنبه.

وسبق كذلك بيان أنه لا تعارض بين كون الله عدلا وبين مغفرته للذنوب، في الفتوى رقم: ٥٤٤٧٠. وراجع للفائدة الفتويين: ٨٠٨٧١، ٣٣٩٧٥.

ومن حكمة ذلك أن تظهر آثار أسماء الله وصفاته في خلقه، فهو سبحانه واسع المغفرة ورحمته وسعت كل شيء، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، فهو الرحمن الرحيم، العفو الكريم، الرءوف الحليم، التواب الغفور ... فإذا تاب الله على من سبه واستهزأ به وغفر له وعفا عنه ووفَّقه للإنابة وجعله من أوليائه الصالحين شهدنا بذلك آثار هذه الأسماء وتعلقت قلوبنا برحمته وعفوه وكرمه ورأفته ولم نيأس من رحمته.

وأما كون الكفر درجات وأنواع فأمر صحيح، فليس الكفر درجة واحدة، ولذلك فإن المخلدين من أهل النار يتفاوتون في العذاب باعتبارات كثيرة كطول العمر وكثرة الإجرام، والبداءة بالشر ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. {آل عمران: ١٦٣} وقال سبحانه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. {الأنعام: ١٣٢} . وقال عز وجل: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. {الأحقاف: ١٩} . وراجع في ذلك الفتوى رقم: ١٥١٧٤. ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب رغم موته على الكفر أنه من أهون أهل النار عذابا، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: ٨٣٠٦.

وأما أيهما أشد كفرا فرعون أم أبو جهل؟ فلا شك أن فرعون أشد كفرا، فإنه لم ينكر ألوهية الله فحسب بل أنكر حتى ربوبيته، كما قال لموسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. {الشعراء: ٢٣} . وقال له أيضا: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. {الشعراء: ٢٩} . وقد ادعى فرعون ما لم يخطر ببال أبي جهل، فقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى. {النازعات:٢٤} . وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. {القصص: ٣٨} . ولذلك صرح القرآن بأنه يعذب أشد العذاب، فقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. {غافر: ٤٦} .

وأما السؤال عن إمكانية قبول توبة فرعون؟ فالجواب: نعم، لو تاب في وقت الإمكان، أي قبل الغرغرة وقبل معاينة الموت، لقُبل منه، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: ٥١٣٢١. حتى لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل صلى الله عليه وسلم جعل يدس في فيِّ فرعون الطين خشية أن يقول: لا إله إلا الله. فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب. وصحح الألباني إسناده.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٠٧ شعبان ١٤٣٠

<<  <  ج: ص:  >  >>