للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[الاجتهاد في مغالبة النفس والهوى]

[السُّؤَالُ]

ـ[كنت مسلما ملتزما جدا ولست متشددا أبدا, ولكن ملتزم بشكل قوي جدا حتى أصبحت أقعد في المسجد من الفجر إلى العشاء تواصلا دون ملل ولا تعب, أشعر كأني ذهبت لنزهة وحديقة, بل حتى إذا أذهب للحديقة بعدها بعشر دقائق أشعر بالملل وأعود للمسجد فهناك الراحة والطمأنينة, ما تركت شيئا داخلا ولا طالعا في أمر من أمور حياتي إلا أتأكد أنه أمر ليس بذنب ولا يؤدي إلى ذنب, ولدي الكثير الكثير لأقوله, وقسما بالله العظيم أني شاهد على آية "ادعوني استجب" وقسما بالله العظيم, ما دعوت الله إلا استجاب لي معظم الأمور التي دعوتها استجيبت إلا بعض الأمور المعينة كالذهاب الى الجهاد وغيره من الأمور الأخرى, والاستجابة معظمها تكون في اليوم نفسه أو مباشرة بشكل ملحوظ جدا وإن لم يستجب لي الله فأكتشف بعد فترة حصول أمر معين ومهم حيث إذا تم استجابة الدعوة التي ما استجيبت فسيحدث خلل في الأمر المهم الذي واجهته, والأمثلة كثيرة, لكن هذا كان وأصبح في خبر كان, ياللحسرة, لطالما بنيت بنيان التقوى لم يبن في يوم وليلة, البنيان تهدم ولكن أخذ سنة كاملة حتى تهدم كاملا, يا للحسرة بعد سنة من هدم بنيان التقوى, نظرت للخلف وأنا مازلت أنه مازال هنا, نظرت للخلف فوالله الذي لا إله إلا هو لم أجد شيئا....تعرف لم؟ من أجل الدراسة الجامعية, تعرف لماذا ألوم الدراسة الجامعية, لأنها أبعدتني من صلوات الجماعة رغم أنف أبي, كم من مرات أتحسر في الفصل والجماعة تفوتني, كم من مرات قلبي يدمع في الاختبارات لأني أعلم أن الجماعة تفوتني, صدق أو لاتصدق صلاة المنفرد تقتل صاحب بنيان التقوى المتأصل من الجذور شيئا فشيئا دون شعور.....بعد سنة من صلاة الانفراد مع صلاة الجمعة وبعض الجماعة في الأوقات التي أكون فيها متفرغا, نظرت للخلف, شعرت بأنه البنيان مازال موجودا مازال هناك خوف وخشوع وعدم تجرؤ على أي معصية, لكن التهاون بالصغائر بدأ واحدة واحدة والتقوى بدأت تقل, بعدها بفترة ليست بالطويلة وبالقصيرة, علمت أني أصبحت مسلما عاديا! أقصد يعني أضيع الصلاة عن وقتها لكن أصليها بعد, ما أذهب إلى المسجد إلا إذا شخص قال لي هيا نذهب سويا, ما أقدر أقعد في المسجد بعد الصلاة, ثلاثة استغفارات, وعلى طول خارج المسجد والوضع صار أسوأ, على كل حال, الآن لما أرى حالي وأرى وضعي السابق, علمت وأيقنت أني كنت تقيا وأن الأمور التي كنت أراها من قبل (كانت تحصل لي أمور غريبة, كشعور بألم كقرص النمل عند عمل كل ذنب بسيط كإطلاق البصر ولا يذهب الألم الحسي إلا بالاستغفار, وفراسة قوية حتى ظننت أن الشياطين بدأت تتلاعب بي) المهم كل هذا راح مع انهدام بنيان التقوى, فوقتها عرفت أني لم أكن مسلما عاديا, وقوة الصبر والزهد والورع التي كنت أعملها حبا ولا إراديا فإنما هي ليست باختياري, لكن الإنسان في ذاك الوقت ما يشعر شيئا, يظن أنه هو عنده قوة الصبر والزهد فوالله هي من الله يسهلها للعبد, فعلمت أن الأمور هذه لا تأتي متى ما شئت وهي ليست من صفاتي, أنا الآن أستغرب كيف كان حالي السابق! كيف كنت أعيش! كأنه ليس أنا أبدا......يا للحسرة, الكلام يطول ويطول ومشاعر ألمي يصعب تعبيرها كتابة....السبب الأول من انهدام بنيان التقوى, ترك الجماعة..فترك الجماعة بعذر واه, كمثلا لدي حصة جامعية أو إلى آخره, يهدم تقواك تماما, تعرف لماذا؟ إذا لدي حصة جامعية أحضرها تحضيرا للاختبار النهائي حتى أنجح, فالله أعطاني حصصا منذ أن ولدت فرضت علي أن أحضرها حتى أنجح في الاختبار النهائي (اختبار يوم الحساب) فبالله عليك يا شيخ أو يا مفتي, أليس حضور حصص الله (أقصد الصلوات الخمس جماعة مهما كان بكامل الخشوع والتدبر والاستعداد) أولى لنا!؟ لأن الله هو الذي أمرنا أولا..فإذا نظرت بنظرة عادلة أي حصة تحضرها أولا, فسترى أنه أمر الله تطبقها أولا لأنه هو الذي أمرك أولا, وليس الجامعة ... أنا أدرس بالغرب وأهلي هنا, فعندي أنا لا أقبل أبدا, فأمر الله أولا ثم أولا ثم أولا لأنه أمرنا أولا وليس الجامعة, فأنا لازم أتبع الترتيب فالله أولا, مهما كان الله غفورا رحيما, أنا كشخص ما أرضى بذلك.... من له الحق أولا لازم أنفذه وأرد الحق للذي يستأهله أولا, وإلا الموت أفضل لي....ألا فلعنة الله على كل أمر خرب ودمر علاقتي مع الله.....الله يلعنهم.. لدي الكثير لأقوله.....أتدري ماذا!!! أصبحت شبه مرتد, وربما ارتددت والله اعلم, (أثناء التقوى كنت متواضعا جدا وكتوما محبا للمؤمنين, أخاف على إيماني من العوام, بكل صراحة, لأني حساس وفي ضعف, القعدة مع عوام المسلمين تجعلني مثلهم, وأنا إذا كنت مثل العوام, فلا تسأل عني, فأني أفسق وأفسد على الخفاء) سبحان الله, من الكفر, إلى التوبة والإسلام والتقوى, إلى المعاصي الصغرى, إلى بوابة الكفر مرة أخرى لم أدخل فيها ولن أدخل بإذن الله, أريد الرجوع, ممكن أرجع التقوى؟ أعمالي القديمة صارت هباء منثورا؟؟ يبكي قلبي ... الآن بعد التزامي سأفر إلى الشيشان بديني.]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله لنا ولك العافية، ورجاؤنا فيه أن يردك إلى جادة الصواب، وأن يوفقك إلى الثبات على الحق حتى الممات.

والذي يبدو لنا أنك لا تزال على خير ما دامت في قلبك حياة تحس بها هذه الحسرات والندم على التفريط وما فات. فالقلب الميت لا يستشعر حسرة أو ألما، قال ابن القيم في كتابه القيم إغاثة اللهفان من مصائ د الشيطان: وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق بحسب حياته، وما لجرح بميت إيلام.

وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه. اهـ

فالذي ننصحك به الاجتهاد في مغالبة النفس والهوى، والحرص على إيثار الآجل على العاجل، ولزوم التوبة والمبادرة إليها قبل أن يفوت الأوان، وما ذكرت من الحالة التي كنت عليها من تذوق حلاوة الطاعة والإيمان ودخولك جنة الدنيا وإحساسك بالسعادة ينبغي أن يكون خير دافع على الإنابة إلى الله.

وأما الدراسة بالجامعة فهي في أصلها من الخير، ولا شك أنه إذا أمكن المسلم أن يجمع بينها وبين المحافظة على دينه فذلك نور على نور، ولكن إن كانت الدراسة سببا لضياع الدين فلا خير في دراسة تشغل عن الله، وتحول بين القلب وطاعة مولاه، وعليك بالإكثار من دعاء الله تعالى عسى أن ييسر لك أسباب الهداية والصلاح. روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المبارك أنه سئل عن أول زهده فقال: إني كنت يوما في بستان وأنا شاب مع جماعة من أترابي، ذلك في وقت الفواكه، فأكلنا وشربنا وكنت مولعا بضرب العود فقمت في بعض الليل وإذا بغصن يتحرك على رأسي، فأخذت العود لأضرب به فإذا أنا بالعود ينطق ويقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ {الحديد:١٦} قال: فضربت بالعود الأرض فكسرته، وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما تشغل عن الله عز وجل، وجاء التوفيق من الله تعالى، وكان ما سهل لنا من الخير بفضله وبرحمته. اهـ وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى: ١٢٩٢٨، ٢٤٠٨٢، ١٥٢١، ٥٢١٥٣.

وأما بالنسبة لما سبق مما جنيت من الحسنات.. فإن لم تكن منك ردة عن الدين فنرجو أن تكون هذه الحسنات باقية ولم تذهب هباء منثورا. وعليك بالحرص على الإحسان في المستقبل.

ونود أن ننبه في ختام هذ الجواب إلى أمرين:

الأول: أن المسلم إذا وفقه ربه للاستقامة فعليه أن يحرص على الترويح عن نفسه بما هو مباح مع الصالحين من إخوانه فهذا أدعى لعدم الملل والسآمة والانقطاع عن طريق الاستقامة. وراجع الفتوى رقم: ٣٣٦٩٠.

الثاني: أن الإقامة في بلاد الكفر لا تخلو من مخاطر، فمن كان يخشى الفتنة في دينه بسببها فلا تجوز له الإقامة هنالك. وانظر الفتوى رقم: ٢٠٠٧، وما يمكننا أن نشير به عليك هنا أن تبحث عن بلد إسلامي تتمكن من الإقامة فيه وإكمال دراستك الجامعية من غير ضرر يلحقك في دينك.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١١ ربيع الأول ١٤٢٩

<<  <  ج: ص:  >  >>