للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[لا بد من الشرع للتكليف مع أن العقل يحسن ويقبح]

[السُّؤَالُ]

ـ[سؤالي هو في الفلسفة, وأرجو الرد عليه في أسرع وقت.

هل الأمر الإلهي هو فقط الذي يقرر لنا كيف نتصرف؟ هل الإنسان الجيد والأخلاقي هو فقط الذي يتصرف حسب الأمر الرباني. بمعنى آخر, هل فقط الأمر الرباني هو الأمر الصحيح أي إذا كان نعم فهل يعني هذا أنه ليس بمقدور الإنسان التصرف ذاتيا بشكل صحيح؟ وهل يعني ذلك أن ما يحبه الله فهو الصح والحسن؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن العقول البشرية لا تستقل بإدراك مصالحها؛ لذلك أنزل الله عز وجل شرعه المطهر لجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا الشرع لا يخالف العقل الصريح؛ بل كل ما أمر به الشرع أو نهى عنه فإن العقل السالم من الأوهام والأهواء يوافق ذلك ولا يخالفه، وقد وقع الخلاف بين الناس في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، جاء في الموسوعة الكويتية: التحسين والتقبيح يطلقان بثلاثة اعتبارات: الأول: باعتبار ملاءمة الطبع ومنافرته، كقولنا: ريح الورد حسن، وريح الجيفة قبيح. والثاني: باعتباره صفة كمال أو صفة نقص، كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح. وهذان النوعان مصدرهما العقل من غير توقف على الشرع، لا يعلم في ذلك خلاف. والثالث: باعتبار الثواب والعقاب الشرعيين، وهذا قد اختلف فيه فذهب الأشاعرة إلى أن مصدره الشرع، والعقل لا يحسن ولا يقبح، ولا يوجب ولا يحرم. وقال الماتريدية: إن العقل يحسن ويقبح، وردوا الحسن والقبح الشرعيين إلى الملاءمة والمنافرة. وذهب المعتزلة إلى أن العقل يحسن ويقبح، ويوجب ويحرم. أ. هـ

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن العقل لا يحسن ولا يقبح، أو أنه لا يعلم بالعقل حسن فعل ولا قبحه. انتهى

بل العقل يحسن ويقبح، فالصدق حسن والكذب قبيح. وهذا يعلم بالعقل، ولكن لا بد من الشرع لمعرفة قبح وحسن بعض الأفعال والتصرفات، كما أنه لا بد من الشرع للتكليف؛ فلا تكليف بمجرد التحسين والتقبيح العقليين، ثم إن الشرع إنما ورد بالأمر والنهي في أمور محدودة، وما ترك ولم يرد فيه أمر ولا نهي فهو على الإباحة، قال عليه الصلاة والسلام: أحل الله حلالاً، وحرم حراماً، وسكت عن أشياء، فما سكت عنه فهو عفو. أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عباس.

وعلى هذا؛ فما سكت عنه الشارع فعمله الإنسان أو تركه فإن تصرفه هذا لا يخرج عن الشرع، أما إذا تعارض العقل والشرع فلا شك أن الواجب اتباع الشرع ونبذ ما يتوهم أنه عقل، فالأمر الرباني معصوم، والعقل يعتوره الخلل لقصوره أو لتقصيره.

ثم لمزيد من الفائدة نقول للأخت السائلة: إن الأمر الإلهي أو الإرادة الإلهية، تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية دينية.

فالإرادة الكونية هي المستلزمة لوقوع التصرف، وهي بمعنى المشيئة التي يقال فيها: ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله تعالى: [فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ِ] (الأنعام: ١٢٥)

وقوله تعالى: [َوَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد ُ] (البقرة:٢٥٣)

وغيرها من الآيات.. فالتصرف الذي أراده الله كوناً وقدراً لا بد أن يكون،

وأما الإرادة الشرعية الدينية فهي لا تستلزم وقوع التصرف إلا إذا تعلق به النوع الأول (الكونية) وهذا النوع من الإرادة هي التي يحب الله من فعلها ويرضى عنه، ومنها قوله تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفا] (النساء:٢٦-٢٨)

وقوله: [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ] (المائدة: ٦)

فالتصرف الذي أراده الله شرعاً قد يكون وقد لا يكون، والإنسان الذي وصفتيه بأنه جيد وأخلاقي هو الذي يتصرف على وفق هذا الأمر، فالأمر الرباني الذي أراده الله تعالى إرادة شرعية دينية هو الأمر المحبوب، أما ما أراده الله كوناً وقدراً فقد يكون محبوباً وقد لايكون محبوباً له سبحانه.

مثال الشرعي المحبوب كالصلاة والزكاة والصدقه وأعمال البر، ومثال الأمر الكوني غير المحبوب كالقتل لمن لا يستحق، والعقوق، والكذب وأعمال الفجور.

والإنسان يستطيع أن يتصرف التصرف الصحيح، فإن الله تعالى قد خلق في العبد قوة وإرادة بها يتمكن من فعل ما أراد وترك مالم يرد، وهذا مما لا يتردد فيه عاقل، فإذا أقدم العبد على فعل شيء يوجب له العقاب في الدنيا والآخرة استحق ذلك العقاب لأنه قد خالف الأمر مختاراً.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٢٨ ربيع الأول ١٤٢٥

<<  <  ج: ص:  >  >>