للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[توقع حصول الشر ليس من خلق المسلم]

[السُّؤَالُ]

ـ[أشكو لله همي، ثم لكم، فأنا لا أعلم ماذا أقول، لقد تعسرت علي برغم أني بحثت عن حل لهذه المشكلة، لكن الله هو المستعان.

فأنا مراهقة في ١٦ من عمري، لدي مشكله مع -القدر-الذي يراه الجميع كاشف الهموم والغموم لمن يؤمن به، ولما فيه من زيادة إيمان الإنسان وتوكله.

أنا -ولله الحمد- منذ نعومه أظافري وأنا مؤمنه به جدا-بأركانه الأربعة كاملة- لكن في الوقت الحالي لا أعلم ما بي، فقد أصبحت أدخل كل شيء في القدر وأقرن كل شي به، وماذا لو كتب الله لي، دائما أذكرها بكل صغيره وكبيرة، فأنا كما يقال اخترعت ركنا جديدا وهو التوقعات السيئة عن القدر-المستقبلية والغيبية- والتفكير به بعمق شديد جدا لدرجه أنني لا ألوم من كان فاشلا أو يائسا أو كئيبا لأنه وبكل بساطه قدره-حتى أنني عندما كنت أبحث عن حل لمشكلتي قلت لنفسي: ماذا لو كان هذا قدرك- أن تفكري بالقدر- صدقت شريعتنا عندما قالت لنا أن لا نفكر بالأمور الغيبية، لأنها تفتح أبوابا لن تغلق باليسر كما حدث معي فأصبحت أخاف فقدان نعم ربي الجليلة، وأخاف على أهلي وعلى كل شيء تحت كلمه ماذا لو كتب الله لي هذا.

عندها أيقنت كل اليقين بأن هذا فخ من الشيطان الأرعن، لأنه في بداية الموضوع كانت تأتيني على صورة ماذا لو كتب الله لي أن لا أعتذر من أمي؟ ومن هذا المنوال، ومع بحثي عن القدر أدركت أن المعاصي والذنوب والأعمال الصالحة ليس لها دخل على الطلاق بالقدر ولما فسروه مع استدلالهم بآيات جليلة، إلا أني أدركت أيضا بأن هنالك فئتان ضالتان بموضوع القدر ١: المشيئة ٢-والجبرية

وغيرها الكثير من المعلومات التي عرفتها عن القدر، لكن لا أدري لماذا أشعر بأنه حتما موضوع لا يمت بصله للصحة، كما أنني دخلت في دوامة كبيرة تتخبط بالأفكار السيئة والتي لا دخل لها.

ملاحظه مهمة: دائما وأبدا عندما أعرض عن هذه الأفكار -أشغل نفسي عنها-تذهب مباشرة كما لو أني لم أفكر بها على الإطلاق، وهذا ما زادني جزما بأنها من الشيطان.

إذا بعد كل هذا الكلام..

١) ما المقصود أن القدر لا ينافي العمل؟؟

٢) ما رأيكم بما أنا فيه ولا أريد إلا أن أتخلص من هذه العقبة؟؟

جزاكم الله خيرا، وآسفه جدا على الإطالة إلا أنني أثق بالله ثم بكم بأن تعطوني الإجابة الكافية الوافية بإذن الله تعالى.]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فعلاجُ مشكلتكِ بيدكِ أنتِ، وهو ما ذكرته ضمن سؤالك وهو الإعراض عن تلك الأفكار وهذه الوساوس، فإن فتح باب الفكر في القدر الذي هو سرٌ من أسرار الله في خلقه يفتحُ على صاحبه شراً عظيماً.

قال الطحاوي رحمه الله: وأصل القدر سر الله في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان وسلم للحرمان ودرجة الطغيان. فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه؛ كما قال تعالى في كتابه: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. انتهى.

فاجتهدي في دعاء الله أن يصرف عنكِ هذه الوساوس، وأن يثبتكِ على الحق.

ثم اعلمي أن الواجب على كل مسلم أن يُحسن الظن بربه عز وجل، فلماذا تفترضين الفروض السيئة، وتتوقعين احتمالات الشر، بل عليكِ دائماً أن تحسني الظن بربك عز وجل، وتأملي فضله، وكوني دائماً راجيةً لعفوه ورحمته، فقد قال عز وجل في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي. متفقٌ عليه.

هذا عن رأينا في مشكلتك، وما دمتِ تجاهدين نفسك في التخلص من هذه العقبة فإن الله سيوفقكِ ويعينك بمنه ورحمته.

وأما عن الشِق الأول من سؤالك، فاعلمي أن الإيمان بالقدر لا يُنافي العمل، ومعنى ذلك أن الله خلق الأسباب والمسببات، وقدر هذا وهذا، ولكي يصل العبد إلى ما يريده من النتيجة فلا بُد من الأخذ بالسبب، فإن الجائع مثلاً لكي يحصل على الشِبع فإنه يأكل، ولا يقول لو كان الشبع مقدراً لي لشبعتُ دون أكل، وأكله الذي هو السبب وحصول الشبع الذي هو النتيجة كل ذلك بقدر، وهكذا فيمن أراد دخول الجنة والنجاة من النار، فإن الله عز وجل قدر ذلك وقضاه في الأزل، ولكنه قضى أن يكون ذلك بسببٍ من العبد، فلا بد للعبدِ من أن يأخذ بالسبب لتحصل له النتيجة المرجوة، مع إيمانه بأن السبب والنتيجة بقدر الله عز وجل.

قال الحافظ الحكمي رحمه الله: اتفقت جميع الكتب السماوية والسنن النبوية على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد والحرص على العمل الصالح، ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها قال بعضهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ... {الليل:٥} .

فالله سبحانه وتعالى قدر المقادير، وهيأ لها أسبابا، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشدّ اجتهادا في فعلها والقيام بها وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر: ما كنت أشدّ اجتهادا مني الآن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أرأيت دواء نتداوى به، ورقى نسترقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله. يعني أن الله تعالى قدر الخير والشر وأسباب كل منهما. انتهى

ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم: ١١٧٦٢٤، ١٠٨٩٤٢.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٢٥ ربيع الأول ١٤٣٠

<<  <  ج: ص:  >  >>