للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[العاقل من يجعل دنياه مطية لآخرته]

[السُّؤَالُ]

ـ[أريد منكم جزاكم الله خيرا شرح هذا القول، قول الخليفة الرابع علي رضي الله عنه (هم السعيد آخرته وهم الشقي دنياه) و (واعجبا ممن يعمل للدينا وهو يرزق فيها بغير عمل ولا يعمل للآخرة وهو لا يرزق فيها إلا بعمل) ؟

والله يوفقكم.]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلم نقف على هاتين العبارتين فيما اطلعنا عليه، وعلى فرض صحة نسبتهما للإمام علي رضي الله عنه فتحمل العبارة الأولى: (هم السعيد آخرته والشقي دنياه) على ما يظهر للناس من حال الشخص لأن الحكم بذلك في الواقع أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، قال ابن حجر في فتح الباري: وإن السعيد قد يشقى، وإن الشقي قد يسعد؛ لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير انتهى.

ذلك لأن للناس معايير في السعادة والشقاء، فمن كثرت عليه المصائب في الدنيا من مرض أو فقر أو موت حبيب ونحوه فقد يصفه الناس بالشقاء في الدنيا، ويكون مؤمنا محتسبا صابرا شاكرا فهو سعيد في الآخرة باعتبار حقيقة تلك الصفات وهكذا، وإلا فالسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة هي الفوز بالجنة والنجاة من النار مع ما يحصل للمرء في الدنيا من سعادة النفس بقضاء الله وقدره، قال الألوسي في روح المعاني: والسعادة على ما قال الراغب: معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة. وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه. ثم قال: والسعادة ضدها. وفي القاموس ما يقرب من ذلك. فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر. وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد، والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد. وهذا هو المتعارف بين الش رعيين. وقال المناوي في فيض القدير: واختلف أهل يعلم في الدنيا الشقي من السعيد؟ فقال قوم: نعم، لأن كل عمل أمارة على جزائه، وقال قوم: لا والحق في ذلك أنه يدرك ظنا لا جزما.

وأما العبارة الثانية وصيغتها الصحيحة هي: (واعجبا ممن يعمل للدنيا وهو يرزق فيها بغير عمل ولا يعمل للآخرة ولا يرزق فيها إلا بالعمل) فمعناها أن العجب حاصل ممن يسعى فيما ضمن له وهو الرزق في هذه الحياة؛ لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {الذاريات: ٥٦ ـ ٥٨} وقال سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا {هود: ٦} وفي الحديث: أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم. أخرجه ابن ماجه في سننه. وقال الشيخ الألباني: صحيح.

وهو لا يجد في الآخرة إلا ما عمل وقدم. قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا {آل عمران: ٣٠} وقال سبحانه: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {النحل: ١١١} وقال سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {الزلزلة: ٦ ـ ٨}

فالمرء لا يجد في الآخرة إلا ما عمل، فكيف يعمل لدنياه التي ضمنت له، ويفرط في أخراه التي لا يجد فيها إلا ما عمل، والعاقل هو من يجعل دنياه مطية لآخرته، ولا تعارض بين العمل للدنيا والأخرى، قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا {القصص: ٧٧} فلا تعارض بين السعي لهما معا؛ ولكن أن يترك المرء آخرته ويسعى في دنياه فحسب هذا دليل على قلة العقل وسوء التفكير.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١٨ صفر ١٤٢٧

<<  <  ج: ص:  >  >>