للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي]

[السُّؤَالُ]

ـ[ترك حقوق الله تعالى أسوأ حالاً عند الله من ارتكاب المعاصي؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فهذه العبارة ذكرها ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه أعلام الموقعين، وهي منقولة عن سهل بن عبد الله التستري قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نُهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه. انتهى

قال ابن القيم في الفوائد: هذه مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجود عديدة:

أحدها: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس.

الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنى وإن سرق.

الثالث: أن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي كما دل على ذلك النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم: أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها. وقوله: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله. أخرجه الترمذي وغيره، وصححه الألباني.

قوله: اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة. أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.

وغير ذلك من النصوص>

وترك المناهي عمل فإنه كف النفس عن الفعل، ولهذا علق سبحانه المحبة بفعل الأوامر كقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً [الصف: من الآية٤] .

وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:١٩] .

وقوله: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:٩] .

وقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:١٤٦] .

وأما في جانب المناهي فأكثر ما جاء النفي للمحبة، كقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:٢٠٥] ، وقوله: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:١٩٠] ، وقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:٢٧٦] ، وقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:٢٣] ، وقوله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:١٤٨] ، ونظائره.

وأخبر في موضع آخر أنه يكرهها ويسخطها، كقوله: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:٣٨] ، وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد:٢٨] .

قال ابن القيم رحمه الله: إذا عرف هذا.. ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات، ولهذا يُقَدِّر ما يكرهه ويسخطه لإفضائه إلى ما يحب كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد، واتخاذ الشهداء، وحصول التوبة من العبد، والتضرع إليه والاستكانة، وإظهار عدله وعفوه، وانتقامه وعزه، وحصول الموالاة والمعاداة لأجله، وغير ذلك من الآثار التي وجودها بسبب تقديره ما يكره أحب إليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها، وهو سبحانه لا يقدر ما يحب لإفضائه إلى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لإفضائه إلى ما يحبه، فعلم أن فعل ما يحبه أحب إليه مما يكرهه، ويوضحه الوجه الرابع.

الرابع: أن فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه وينقصه، كما نبه سبحانه على ذلك في النهي عن الخمر والميسر بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات أو عن كمالها، فالنهي عنها من باب المقصود لنفسه، ويوضحه الوجه الخامس.

الخامس: أن فعل المأمورات من باب حفظ قوة الإيمان وبقائها، وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الإيمان، ويخرجها عن الاعتدال، وحفظ القوة مقدم على الحمية، فإن القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة، وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة، فالحمية مداد لغيرها، وهو حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها، ولهذا كلما قويت قوة الإيمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها، وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة، فتأمل هذا الوجه.

السادس: أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه، وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيئاً من ذلك، فإنه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها لم ينفعه ذلك الترك شيئاً وكان خالداً في النار، وهذا يتبين بالوجه السابع.

السابع: أن من فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناجٍ مطلقاً إن غلبت حسناته سيئاته، وإما ناجٍ بعد أن يؤخذ منه الحق، ويعاقب على سيئاته، فمآله إلى النجاة، وذلك بفعل المأمور، ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناجٍ، ولا ينجو إلا بفعل المأمور وهو التوحيد.

الثامن: أن المدعو إلى الإيمان إذا قال: لا أصدق ولا أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره كان كافراً بمجرد الترك والإعراض، بخلاف ما إذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرني ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني عنه، وأنا أعلم أنه قد نهاني وكَره لي فعل المنهي، ولكن لا صبر لي عنه، فهذا لا يعد كافراً بذلك ولا حكمه حكم الأول، فإن هذا مطيع من وجه، وتارك المأمور جملة لا يعد مطيعاً بوجه يوضحه الوجه التاسع.

التاسع: أن الطاعة والمعصية إنما تتعلق بالأمر أصلاً وبالنهي تبعاً، فالمطيع ممتثل المأمور، والعاصي تارك المأمور. قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:٦] .

وقال موسى لأخيه: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَاّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:٩٢، ٩٣] ، وقال عمرو بن العاص: أنا الذي أمرتني فعصيت؛ ولكن لا إله إلا أنت.، وقال الشاعر:

أمرتك أمراً جازماً فعصيتني

الوجه العاشر: أن امتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة، وتلك العبادة التي خلق لأجلها الخلق كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:٥٦] ، فأخبر سبحانه أنه إنما خلقهم للعبادة، وكذلك إنما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه، فالعبادة هي: الغاية التي خلقوا لها، ولم يخلقوا لمجرد الترك، فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم، بخلاف امتثال المأمور فإنه أمر وجودي مطلوب الحصول.

وقد ذكر ابن القيم في كتابه الفوائد ثلاثاً وعشرين وجهاً، ونقلنا هنا بعضها، وتركنا بقيتها لطولها فيمكن الرجوع إلى الكتاب المذكور.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١٧ ذو الحجة ١٤٢٣

<<  <  ج: ص:  >  >>