للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[لوم النفس بين المدح والقدح]

[السُّؤَالُ]

ـ[متى يكون تأنيب الضمير مذموما ومتي يكون محموداً؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فكلمة الضمير تعني لغة: ما ينطوي عليه القلب من خير وشر، وهي من الألفاظ التي شاع استعمالها في عصرنا في المدح والذم، فتراهم يقولون في الذم: فلان لا ضمير له، وتراهم يقولون مدحاً: فلان عنده ضمير.

وترتب على هذا الاستعمال الحادث غياب الكلمات الشرعية التي ينبغي أن تستعمل في مثل هذا، مثل: التقوى، والخشية، والخوف من الله، لذلك من الخطأ أن تستعمل تلك الكلمة هذا الاستعمال الحادث، وينبغي أن تستبدل بالكلمات الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة.

وتأنيب الضمير الذي وقع السؤال عنه أخص من الاستعمال الشائع الذي ذكرت، فالمقصود به هاهنا: ما يلوم عليه المرء نفسه من الخير أو الشر، فعلى هذا إنما يمدح هذا التأنيب أو يذم بحسب متعلقه، فإذا كان التأنيب بسبب التقصير في الطاعات أو التكاسل عن المستحبات أو الوقوع في المحرمات والمكروهات، بحيث يكون دافعاً للتوبة والاستقامة كان ممدوحاً.

قال الحسن: في تفسير قوله تعالى: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:٢] : إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، ولا أراه إلا يعاتبها. وإن الفاجر يمضي قُدماً لا يعاتب نفسه. أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا كذا في الدر المنثور.

فهذا النوع من التأنيب رائع في هدفه، رائع في مقصده، رائع في منبعه.

روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.

وروى أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا.

وانظر إلى هذه الصورة التي سجلها البخاري في صحيحه من الصور الرائعة للوم المرء لنفسه على فوات طاعة من الطاعات: قال أنس: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عن أول قتال قاتلتَ فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتالهم ليرين ما أفعل فقط هكذا يتحسر على عدم حضوره لمعركة بدر، والنتيجة في معركة أحد "فلم تعرفه إلا أخته ببنانه" من كثرة ما مثَّل به المشركون.

فكم هو رائع هذا اللوم والتأنيب المُحفز للعمل.

وأما إن كان التأنيب واللوم بسبب ما فات النفس من حظوظ الدنيا وشهواتها ونحو ذلك فإنه يكون مذمومًا إذا تعدى فيه إلى ما لا يجوز، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس من أحد إلا وهو يحزن، فالفرح والحزن المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز. تفسير القرطبي ١٧/٢٢٠.

لأنه ينم عن عدم الرضا بقضاء الله وقدره، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:٢٢، ٢٣] .

قال أبو السعود في تفسيره: أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نعم الدنيا. وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ أي: أعطاكم الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر، يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت.

وهذا النوع من التأنيب مثل ما تعج به حياتنا اليوم من التأسف والتحسر على فوات الدنيا، فنجد التاجر يعتصره الندم على فوات صفقة تجارية كانت سترفع أرصدته، ونجد الموظف يأكله التحسر أكلاً على فوات فرصة وظيفية كان معلقًا عليها آمالاً في تحسين حالته المادية.

وصور وصور أخرى تضج بها حياتنا، والصبغة العامة لها: أنها دنيوية بحتة، فهذا كله مذموم وعلى المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره.

أما إذا كان تأنيب النفس على فوات ما هو محرم فإن ذلك يكون دليلاً على الشقاوة والعياذ بالله، ولهذا كان ابن عباس يقول: يا صاحب الذنب لا تأمنن من سوء عاقبته ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب إذا ظفرت به، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته.

فنسأل الله أن يجنبنا تأنيب أنفسنا التأنيب المذموم، وأن يجعل لنا نصيبا من التأنيب المحمود، لنهب جميعاً لخدمة أمتنا على كافة الصُعُد، قائلين: ليرين الله ما أفعل.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١٥ ذو الحجة ١٤٢٣

<<  <  ج: ص:  >  >>