للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[إقامة العدل المطلق تكون في الآخرة لا في الدنيا]

[السُّؤَالُ]

ـ[أحيانا أظلم من المجتمع في كثير من الأمور، أو أن أرى بعض الناس المستضعفين كالمرأة المستضعفة، واليتيم، والطفل الصغير الذي يعامله والداه بكل قسوة، وأرى الخيانات الزوجية، وأرى في المجتمع كثيرا من أنواع الظلم الذي تقشعر له الأبدان.

فسؤالي أيها السادة: الله هو ملك الملوك، جبار السماوات والأرض، يستطيع بكلمة: كن، وبأقل من هذه الكلمة أن يحسم كل الأمور، وأن ينهي كل الظلم، لكن أحيانا نجد أن الله عز وجل لا يتدخل، بمعنى أن كثيرا من الناس ظلموا وبقوا في ظلمهم حتى فارقوا حياتهم، ولم يتدخل الله لأجلهم. فلماذا لا يتدخل الله في حياتنا؟

وكيف السبيل أن نجعل الله يتدخل في حياتنا فيزيل عنا الظلم وينصرنا ويحمينا من الفتن والشرور؟

أسمع يومياً كثيرا من القصص، شاب يضرب والديه، أم تقتل ابنتها! ، أب يتحرش بابنته! وكل هذا الشيء ألا يستطيع الله أن يتدخل ويحسم الأمر ويصلح لنا شأننا كله؟ وفي حال دعونا الله عز وجل وأخذنا بالأسباب، ومع ذلك بقي الظلم واقعاً في المجتمع. ماذا بإمكاننا أن نفعل؟ وكيف يتدخل الله؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا شك أن ما يحدث من أنواع المظالم العامة والخاصة لا يخفى على الله منها شيء، ولا شك أيضا أن الله تعالى لا يرضى بالظلم والعدوان، قال تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. {آل عمران: ٥٧} . وقال سبحانه في الحديث القدسي: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم.

والناس في ذلك بين ظالم ومظلوم، فأما الظالم فإن الله تعالى إنما يملي له ليزداد إثما، ويؤخره ليوم تشخص فيه الأبصار، قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. {آل عمران:١٧٨} . وقال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ. {إبراهيم:٤٢} .

قال السعدي: هذا وعيد شديد للظالمين، وتسلية للمظلومين، يقول تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. حيث أمهلهم وأدرَّ عليهم الأرزاق، وتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين، فليس في هذا ما يدل على حسن حالهم، فإن الله يملي للظالم ويمهله ليزداد إثما، حتى إذا أخذه لم يفلته: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد. والظلم -هاهنا- يشمل الظلم فيما بين العبد وربه وظلمه لعباد الله. اهـ.

وأما المظلوم فإن الله تعالى يمتحنه تمييزا وتمحيصا، فإن آمن بالله واتقاه جوزي على ذلك بالثواب الجزيل، كما قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. {آل عمران:١٧٩} . وقال عز وجل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. {المائدة:٤٨} .

والدنيا ـ كما هو معروف ـ ليست بدار جزاء ووفاء، وإنما هي دار محنة وبلاء، وذلك أنها لم تخلق للدوام والبقاء، بل للزوال والفناء، فلا يصح أن يحكم على حال الدنيا بمعزل عن الآخرة، فإن الله تعالى لم يخلقها إلا ليبتلي بها عباده ويمتحنهم فيها فينظر كيف يعملون، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. {هود:٧} .

فإقامة العدل المطلق لا تكون في الدنيا بل تكون في الآخرة، حيث يقول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. {الأنبياء:٤٧} . وقال صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. رواه مسلم. وراجع لزاما لبقية الإجابة إجابة السؤال رقم: ١١٧٦٣٨

وقد سبق الكلام عن الحكمة من خلق العباد، ولماذا لم يخلقوا كالملائكة معصومين، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: ٥٤٩٢، ١١٤٢٥٥، ٤٤٩٥٠، ١١٣١٦٦، ٦٩٤٨١، ٣٣٧١٨.

وأما السؤال عما بإمكاننا أن نفعل، فإن العبد لا يخلو من سراء أو ضراء، وعليه في كل حال منهما فرض يؤديه لله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. رواه مسلم.

فمن صبر حال الضراء، وشكر حال السراء فقد أدى ما عليه.

وعلى المسلم أن يسعى دائما لنصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج، بقدر طاقته ووسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وفي الوقت نفسه يعلم أن لله تعالى في كل قضاء يقضيه حكمة بالغة، وله على عباده الحجة البالغة، وأنه لا يظلم مثقال ذرة ولا يظلم الناس شيئا، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. {النساء:٤٠} . وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. {يونس:٤٤} .

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٢٠ رجب ١٤٣٠

<<  <  ج: ص:  >  >>