للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[شبهة في الإيمان بالقدر وجوابها]

[السُّؤَالُ]

ـ[منذ ٤ سنوات وأنا أحضر رسالة دكتوراه في دولة غربية بأحد أعرق مراكز البحث ولله الحمد لكنني ابتليت في إيماني فأنا أعمل مع أشخاص لا يؤمنون إلا بالمادة وفلسفتها يعتبرون أن تطور البشر من القرود من المسلمات وأن وعينا مجرد صدفة كل شيء يفسر بالسببية ولا مجال لخلاف ذلك مما يعتبرونه خرافات أو مجرد وسائل تحكم بالشعوب تأثرت كثيرا بهذا المنهاج في التفكير ومسني غباره حتى أثر على بصيرتي ويقيني فقد كنت أعبد الله على طمأنينة وكأنني أراه لكن الفلسفة المادية تسللت إلى عقلي وراودتني الشكوك فأصبحت صلواتي بلا روح ولم تعد ذكرا للمولى عز وجل وبعدها مرضت بالاكتئاب وأصبحت الدنيا لا معنى لها شككت في ديني وفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى أنني كدت أن أكفر أو ربما كفرت لأنني أشركت بالله الأسباب أصبحت السببية والعلم المادي رباً جديداً! حاولت أن أستعيذ بالله من هذه الأفكار ومحاربتها وتمكنت من التخلص من بعضها كنظرية التطور التي بدا لي بطلانها بعد دراستها لكونها مبنية على الظن فقط بالمناسبة بعد مناقشتي لزملائي لهذه النظرية تعجبت من تعصبهم الشديد لها رغم الحجج ضدها حتى أنني طلبت تفاصيلها من أحد أشد المؤمنين بها من حولي فوجدت أنني أعرفها أحسن منه! عندها قلت في نفسي: يا عجبا يؤمنون بأمر ظني وأنا أشك بأصل ديني! وعرفت أن المسألة فيها جهل ومصلحة بقي سؤال يحيرني ويعيقني وأتألم منه بشدة: كيف أننا مسئولون عن أفعالنا؟

الفلسفة المادية تقول إن أفعالنا تعتمد على عقولنا التي بدورها تعود إلى عوامل لا نختارها: المورثات التي تخطط للأعصاب قبل الولادة

• البيئة

• التربية

فمن أين تأتي المسؤولية؟ أي أنه في وضع معين ما الذي يجعلني أختار أمرا عوضا عن أمر آخر؟

فإذا كانت المورثات فأنا ورثتها عن والدي البيئة لم أخترها والتربية كذلك حتى إن كانت الشخصية فهي تعود للأمور السابقة.

لا أظن أن الله سيحاسبنا على أمر يعتمد على السببية المادية وإلا لأصبح الأمر جبرا ثم إن الله لا يظلم مثقال ذرة الحل الوحيد الذي أتصوره هو أن تكون لنا قدرة على الاختيار لا تعود لأسباب مادية وإنما تعود لعالم الغيب (هل تلك هي الروح؟) . أتصوراختيارا لا يفسر بالمادة اختيارا لا يعود إلى الأسباب السابقة (المورثات، البيئة والتربية) وإنما يقترن بها عندها يحاسبنا الله حسب اختيارنا النابع من تلك الخاصية الغيبية وتبقى الأسباب الأخرى مجرد ظروف ومعطيات من أجل الإمتحان فلا أحاسب لأنني ولدت مسلما ولكن يعتبر ذلك أمرا في صالحي وأختبر حسب ذلك.

سؤالي: هل من إجابة مقنعة من العقيدة؟ هل من وسيلة لتصحيح فهمي؟ فدون إجابة مقنعة ودقيقة أبقى في شكوكي يقول الله تعالى: \"فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون\"، والله إني لأتألم ولا أجد من حولي عالما أثق به ويطمئن له قلبي لأسأله. أسألكم أن تفكوا علي كربتي في الدنيا وعسى أن يفك الله عنكم كرب يوم القيامة أرجو من الله أن يجعل منكم أحد أسباب شفائي ويعيد إلي الإيمان الفطري ويخلصني من ويلات الفلسفة؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقبل الرد على تساؤلاتك، نريد أولاً أن نزيدك معرفة بدارون وبنظريته المعروفة بنظرية النشوء والارتقاء، أو بنظرية الانتخاب الطبيعي، ولك أن تراجع فيها وفيما قيل عنها فتوانا رقم: ٤٧٥٥.

وفيما يتعلق بموضوع سؤالك، فإنا لا نريد أن نخوض معك في موضوع الفلسفة المادية، وما تقوله عن أفعالنا، وأنها تعتمد على عقولنا التي بدورها تعود إلى عوامل لا نختارها، كالمورثات التي تخطط للأعصاب قبل الولادة، وكالبيئة والتربية ... إلى غير ذلك مما بينته في سؤالك.

واعلم وفقنا الله وإياك لسماع الخير وتقبله، أن جدلية اختيار الإنسان لأفعاله أو جبره عليها، ومدى ارتباط ذلك بالعدل الإلهي هو من المواضيع التي أكثر الناس في نقاشها والبحث فيها، وحقيقة الأمر أن أي حدث في هذا الكون هو بإرادة الله وقضائه، ومع ذلك فالله تعالى يعاقب العباد على ما فرط منهم من المعاصي عدلاً منه، ويثيبهم على ما قدموه من الإحسان تفضلا منه وكرما. وتفسير ذلك هو أن جميع ما يقوم به الإنسان من أفعال هو تنفيذ لأوامر كونية قدرية سبق تحديدها، وليس بإمكانه أن يغير شيئاً منها، وهو من جهة ثانية قد أعطي العقل والحواس التي يميز بها بين النافع والضار، وأعطى القوة لتنفيذ ما يريد، ولم يكرهه أحد على انتهاج هذا المسلك أو ذاك، فهو بذلك مخير، فالتسيير المحض هو أن يهم المرء بفعل فلا يجد الوسيلة لفعله، والتخيير المحض هو أن يقوم بأفعاله من غير أن تكون محددة سلفاً،

ثم تصورك أن تكون للناس قدرة على الاختيار تعود لعالم الغيب. وسؤالك عما إذا كانت تلك الروح، فجوابه أن الأمور الغيبية ليست مجالاً للاجتهاد، وأن الروح هي من الأمور التي استأثر الله تعالى بعلمها، ولم يطلع عليها أحداً من أنبيائه، ولا أذن لهم بالبحث عن حقيقتها فضلاً عن غيرهم، حيث قال سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي {الإسراء: ٨٥}

وننصحك أيها الأخ الكريم بأن لا تتعب نفسك بهذه الماديات والفلسفات، فإن الطريق واضح وليس يحتاج إلى شيء مما ذكرته. وننصحك أيضاً بأن تبتعد عمن ذكرت أنك تعمل معهم، وعن أؤلئك الرفقاء الذين ذكرت من أمرهم ما ذكرت، فالمحافظة على الدين أولى وأهم من أي شيء آخر. ولله در الشاعر حيث قال:

إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... ... ... ... فما فاته منها فليس بطائل.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١٧ ذو القعدة ١٤٢٦

<<  <  ج: ص:  >  >>