للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[الأدلة النقلية والعقلية والحسية على تفرد الله بالألوهية]

[السُّؤَالُ]

ـ[أعلم أن هذا كلام الملحدين وأريد ـ لو سمحتم ـ ردا عليه: إذا كان الله هو الذى خلق هذا الكون بسمواته وأرضه، أليس من المحتمل أن هناك آلهة لها ـ هي الأخرى ـ سموات وأرض فى أكوان تخصهم؟.

فالقرآن يقرر أن التوراة كتاب الله، والإنجيل والزبور كذلك، فلماذا سمح الله بتحريف هذه الكتب؟ ولم يسمح بتحريف القرآن مع أن الكل كلامه.

ـ لماذا يتكلم الله عن نفسه فى القرآن مرة بصيغة الجمع ومرة بصيغ المفرد؟ فهل الله واحد أم جمع؟. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

- لماذا لاتصدقون أن هذا الكون خلق بمحض الصدفة؟ أو حسب نظرية ـ أن الكون نتج عن الانفجارالكوني الرهيب.

- القرآن يقرر أن المشركين والكافرين خالدين فى جهنم أبدا، مع أنهم كفروا على قدر أعمارهم٦٠ سنة مثلا: أليس من العدل أن يعذبوا على قدر أعمارهم في الدنيا ـ وأنتم تقولون إن الله عدل؟.]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

أولا: فما ذكرت من احتمال وجود آلهة أخرى غير الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ احتمال باطل يجتمع على بيان بطلانه النقل والعقل والحس, أما النقل فإذا كنت مصدقا بالله مؤمنا به وبألوهيته ـ كما يظهر من كلامك ـ فنقول: قد أخبر الله سبحانه في القرآن الكريم أنه لا إله غيره ولا رب سواه. فقال سبحانه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا {طه: ١٤} . فدلت هذه الآية على انفراده سبحانه بالألوهية.

وقال سبحانه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ {الأنعام: ١٠٢} . فدلت هذه الآية على انفراده بالألوهية والربوبية، أما دلالتها على انفراده بالألوهية فواضح صريح, وأما دلالتها على انفراده بالربوبية، فذلك قوله تعالى: خالق كل شيء. فدل ذلك على أنه المتفرد بالخلق وأنه ما من شيء إلا والله سبحانه هو الذي خلقه, وغير ذلك من الآيات كثير فكيف يصح بعد ذلك القول بأن هناك آلهة أخرى؟!. هذه دلالة النقل.

أما دلالة العقل فنقول: لو افترضنا ـ جدلا ـ وجود إلهين مثلا, فهذان الإلهان، هل يعلم أحدهما بالآخر؟ أو لا يعلم؟ إن قلت: لا يعلم، فكيف يكون إلها وهو جاهل لا يعلم؟ وهل هذا إلا تناقض؟ وإن قلنا يعلم أحدهما بالآخر، فماذا لو أراد أحدهما شيئا وأراد الآخر ضده؟ كما لو أراد أحدهما بقاء شيء وأراد الآخر فناءه, أو أراد أحدهما حياة إنسان وأراد الآخر موته, حينئذ، إما أن يتحقق مرادهما معا، وهذا مستحيل عقلا، لأنه لا يمكن أن يجتمع الضدان, وإما أن لا يقدر واحد منهما على تنفيذ مراده، وحينئذ تنتفي عنهما الربوبية، إذ لا يكون العاجز ربا ولا إلها, وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، فمن نفذ مراده فهو الإله القادر.

وأما الحس: فإنا لم نسمع أن هناك آلهة أخرى مع الله ولم تعرفنا هذه الآلهة بنفسها ولم تدعنا لعبادتها.

مع التنبيه على أن هذا القول الذي تقوله لم يقل به أحد!! فجميع ملل الكفر التي تؤمن بوجود الله تقر مع ذلك بوحدانيته, حتى من يدع مع الله آلهة أخرى فإنه يجعلها في مرتبة دون الله سبحانه، ولم يجعل أحد منهم إلها مساويا لله سبحانه ـ لا اليهود ولا النصارى ولا مشركو العرب ولا غيرهم.

ثانيا: أما قولك، لماذا حفظ الله القرآن وحده وترك باقي الكتب السابقة تتلاعب بها أيدي المحرفين والمبدلين؟ فنقول: هذه إرادة الله وهو سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسأل عما يفعل, والقرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة إلى يوم القيامة، بخلاف الرسل السابقين فلم تكن معجزاتهم في كتبهم, بل كانت معجزاتهم حسية, من إحياء الموتى بإذن الله، أو إبراء المرضى، أو انقلاب العصا حية، ونحو ذلك مما هو مشهور معلوم.

ثم ليس معنى كون الكلام من كلام الله سبحانه أن لا يقبل التحريف من البشر، فهذا التلازم غير صحيح فقد يكون القول من قول الله جل وعلا, ثم يحرفه البشر إذا شاء الله ذلك وهذا يشمل القرآن أيضا فكان من الممكن أن تمتد إليه أيدي المحرفين والمغيرين لولا تعهد الله سبحانه بحفظه, وكلنا يرى ويسمع كثيرا من أهل الكفر والضلال في زماننا هذا وغيره يسبون الله ـ سبحانه ـ سبا صريحا ويسبون رسله وكتبه, بل ويمزقون كتبه ويطئونها بأقدامهم, والله ـ عز وجل ـ يملي لهم، بل ويرزقهم ويعافيهم, فهل يقدح هذا في ألوهيته؟ سبحانه ـ حاشا لله.

ثالثا: أما قولك، لماذا يتحدث الله سبحانه عن نفسه تارة بصيغة الجمع وتارة بصيغة المفرد؟ فنقول: من له أدنى معرفة بلغة العرب يعلم أن الواحد قد يتكلم عن نفسه وقد يتكلم عنه غيره بصيغة الجمع تعظيما وتفخيما, وهذا معروف مشهور حتى في زماننا هذا.

رابعا: أما القول بأن الكون نشأ وليد الصدفة، فهذا قد بينا بطلانه ومناقضته للعقل في الفتوى رقم: ٣٣٥٠٤.

خامسا: أما قولك إن تخليد الكفار في النار مع أن كفرهم وعصيانهم كان في أمد محدود مما ينافي العدل, فإنا نقول: هذا الكلام باطل من أصله، لأن الله سبحانه لا يسأل عما يفعل وأفعاله سبحانه لا تقارن بأفعال خلقه ومن رام قياس شيء من أفعاله على أفعال خلقه فقد سلك بابا من أبواب الضلال ويوشك أن يضل كما ضل إبليس الذي عارض حكم الله بآرائه الفاسدة, ذلك أن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

ولقد حكى ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ في كتابه ـ صيد الخاطرـ أن ابن الرومي اعترض على تخليد الكفار في النار ورأى أن التأبيد مزيد من الانتقام ينكره العقل, وكان من رد ابن الجوزي عليه وعلى من قال بقوله أنهم إن كانوا لا يصدقون بصحة الخبر في ذلك فالكلام إذن في إثبات النبوة وصحة القرآن، فلا وجه لذكر الفرع مع جحد الأصل, وإن كانوا يصدقون فلا بد وأن يتكلفوا ويتمحلوا لإقامة العذر لا أن يقفوا أمام النصوص معارضين لها, وذكر ـ رحمه الله ـ بعض العلل لتخليد الكفار في النار، منها قوله: ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض وذكر المعذب بما لا يحسن، فكلما زاد عذابهم زاد كفرهم واعتراضهم فهم يعذبون لذلك, ودليل كفرهم: ويحلفون له كما يحلفون لكم.

فإذن كفرهم ما زال، ومعرفتهم به ما حصلت، والشر كامن في البواطن، وعلى ذلك يقع التعذيب: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. انتهى.

ولكن هذا الذي ذكره ابن الجوزي وإن استقام في حق بعض أهل النار فإنه لا يستقيم في حق الجميع, لأن الله سبحانه حكى عن بعضهم اعترافهم بالذنب، كمال قال سبحانه وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ {الملك: ١٠، ١١} .

وقوله سبحانه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ {السجدة: ١٢} .

وذكر غيره أن تخليد الكفار في النار إنما هو بسبب عزمهم على الكفر في الدنيا أبد الآبدين إذا كتب لهم الخلود فكان التعذيب على هذا العزم، ومعلوم أن العزم المصمم المتصل يفعل ما عزم عليه مؤاخذ به في الشريعة.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١٩ رمضان ١٤٣٠

<<  <  ج: ص:  >  >>