للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[تفسير الآيتين ٢١٨ و ٢١٩ من سورة البقرة]

[السُّؤَالُ]

ـ[ما هو تفسير الآية ٢١٨ و ٢١٩ من سورة البقرة وما هو القصد بـ (العفو) ؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فتفسير الآيتين المذكورتين نكتفي فيه بما ذكره السعدي في تفسيره حيث قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ... هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل، ولا فرض ولا نفل.

وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف، لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقرباً إلى الله ونصرة لدينه.

وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياماً به وتكميلاً.

فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل، وعدم القيام بالأسباب، فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي، ونحو ذلك.

وفي قوله (أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها، ويعول عليها، بل يرجو رحمة ربه، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه، ولهذا قال (والله غفور) ، أي: لمن تاب توبة نصوحاً (رحيم) وسعت رحمته كل شيء وعم جوده وإحسانه كل حي، وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة حصل له مغفرة الله، إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله، وإذا حصلت له المغفرة، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة، بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم، فلولا توفيقه إياهم، لم يريدوها ولولا إقدارهم عليها، لم يقدروا عليها ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولاً وآخراً، وهو الذي من بالسبب والمسبب ...

ثم قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ... أي: يسألك -يا أيها الرسول- المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر، وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام، فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم منافعهما ومضارهما، ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما وتحتيم تركهما.

فأخبر أن إثمهما ومضارهما، وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة والعداوة والبغضاء أكبر مما يظنونه من نفعهما، من كسب المال بالتجارة بالخمر، وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس عند تعاطيهما، وكان هذا البيان زاجراً للنفوس عنهما، لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته، ويجتنب ما ترجحت مضرته، ولكن لما كانوا قد ألفوهما، وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة، قدم هذه الآية مقدمة للتحريم الذي ذكره في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ... إلى قوله: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ. وهذا من لطفه ورحمته وحكمته، ولهذا لما نزلت قال عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا.

فأما الخمر: فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه، من أي نوع كان، وأما الميسر: فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين من النرد، والشطرنج، وكل مغالبة قولية أو فعلية بعوض سوى مسابقة الخيل، والإبل، والسهام، فإنها مباحة، لكونها معينة على الجهاد، فلهذا رخص فيها الشارع: ... وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم، فيسر الله لهم الأمر، وأمرهم أن ينفقوا العفو، وهو المتيسر من أموالهم، الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه من غني وفقير ومتوسط، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله، ولو شق تمرة، ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم، ولا يكلفهم ما يشق عليهم، ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا، أو تكليفاً لنا (بما يشق) ، بل أمرنا بما فيه سعادتنا، وما يسهل علينا وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد.

ولما بين تعالى هذا البيان الشافي وأطلع العباد على أسرار شرعه، قال: كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ ... أي: الدالات على الحق المحصلات للعلم النافع والفرقان، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ... أي: لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه وتعرفوا أن أوامره فيها مصالح الدنيا والآخرة، وأيضاً لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها، فترفضوها وفي الآخرة وبقائها، وأنها دار الجزاء فتعمروها. انتهى.

وقد تقدم في ثنايا كلام الشيخ أن العفو هو المتيسر من أموالهم الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وفسر العفو كذلك بأنه: الفضل أي الزائد عن الحاجة، وفسر بالوسط من غير تبذير ولا إسراف إلى غير ذلك.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٠٧ شعبان ١٤٢٨

<<  <  ج: ص:  >  >>