للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الممحصة، فمنهم من ترجح عنده غير ما استقر عليه الأمر من تلك الأقوال باجتهاده الخاص، فيكون هذا المترجح عنده قوله من وجه، وقول أبي حنيفة من وجه آخر، من حيث إنه هو الذي أثار هذا الاحتمال، ودلل عليه أولًا، وإن عدل عنه أخيرًا.

ويدل على ذلك قول أبي يوسف: ما قلت قولًا خالفت فيه أبا حنيفة إلا وهو قول قد قاله أبو حنيفة، ثم رغب عنه.

وحكى الكردري عن النيسابوري: أن أبا يوسف لما ولي القضاء دخل عليه إسماعيل ابن حماد بن الإمام، وتقدم إليه خصمان، فلما جاء أوان الحكم قضى برأي الإمام.

فقال له: كنت تخالف الإمام في هذا.

قال: إنما كنا نخالفه لنستخرج ما عنده من

العلم، فإذا جاء أوان الحكم ما يرتفع رأينا على رأي الشيخ.. اهـ.

ومثله عن محمد بن الحسن.

وعن محمد بن الحسن قال: كان أبو حنيفة قد حمل إلى بغداد فاجتمع أصحابه

جميعًا، وفيهم أبو يوسف، وزفر، وأسد بن عمرو، وعامة الفقهاء المتقدمين من أصحابه، فعلموا مسألة أيدوها بالحجاج، وتنوقوا في تقويمها، وقالوا: نسأل أبا حنيفة أول ما يقدم.

فلما قدم أبو حنيفة كان أول مسألة سئل عنها تلك المسألة، فأجابهم بغير ما

عندهم، فصاحوا به من نواحي الحلقة: يا أبا حنيفة بَلَّدَتْكَ الغربةُ.

فقال لهم: رفقًا رفقًا ماذا تقولون؟ قالوا: ليس هكذا القول.

قال: بحجة أم بغير حجة؟ قالوا: بل بحجة.

قال: هاتوا فناظرهم، فغلبهم بالحجاج حتى ردهم إلى قوله، وأذعنوا أن الخطأ منهم، فقال لهم: أعرفتم الآن؟ قالوا: نعم.

قال: فما تقولون فيمن - نرعم أن قولكم

هو الصواب، وأن هذا القول الخطأ؟ قالوا: لا يكون ذاك قد صح هذا القول، فناظرهم حتى ردهم عن هذا القول.

فقالوا: يا أبا حنيفة ظلمتنا، والصواب كان معنا.

قال: فما تقولون فيمن يزعم أن هذا القول خطأ، والأول خطأ، والصواب في قول ثالث، فقالوا: هذا ما لا يكون.

قال: فاستمعوا، واخترع قولًا ثالثًا، وناظرهم عليه

حتى ردهم إليه.

فأذعنوا، وقالوا: يا أبا حنيفة علمنا.

قال: الصواب هو القول الأول

الذي أجبتكم به لعلة كذا وكذا، وهذه المسألة لا تخرج عن هذه الثلاثة الأنحاء، ولكل منها وجه في الفقه ومذهب، وهذا الصواب فخذوه، وارفضوا ما سواه.. اهـ.

<<  <   >  >>