للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه. فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاويةَ، ورأَوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبِّسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال، التتار وقويت قلوبهم ونياتهم، ولله الحمد.

ولما كان يوم الأربعاء (١) الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشَّامية فخيَّمت على الجسورة من ناحية الكُسْوَة (٢)، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين: فريق يقولون: إنما ساروا ليختاروا موضعًا للقتال، فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنّما ساروا إلى تلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان. فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكُسْوَة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قَارَةَ (٣)، وقيل: إنهم وصلوا إلى القُطَيِّفة، فانزعج الناس لذلك انزعاجًا (٤) شديدًا، ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد، وازدحموا في (٥) المنازل والطرقات، واضطرب الناس، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمَشَقَّةٍ كبيرة، وصحِبته جماعة ليشهد القتالَ بنفسه ومن معه، فظنُّوا أنَّه إنَّما خرج هاربًا فحصل اللَّومُ من بعض الناس، وقالوا: أنت منعتنا من الجَفَل، وها أنت هارب من البلد؟ فلم يرد عليهم، وبقي البلد ليس فيه حاكم، وعاثت (٦) اللُّصوص والحرافيش (٧) فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون الثمر (٨) قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات، وحيل بين الناس وبين خبر الجيش وانقطعت الطرق إلى الكُسْوة، وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينًا وشمالًا إلى ناحية الكُسْوة فتارة يقولون: رأينا غبرةً فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصّلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبَّر عنه، ولكن كان


(١) ليست في: أو ط.
(٢) "الكُسْوة": بلدة معروفة على طريق دمشق درعا، تبعد عن دمشق نحو (٢٠ كم) جنوبًا. وقيل: سميت لذلك لأن غسان قتلت بها رسُل ملك الروم لما أتوا إليهم لأخذ الجزية، واقتسمت كسوتهم. ياقوت ٤/ ٤٦١.
(٣) قارة: بلدة على طريق دمشق حمص تبعد نحو (١٠٠ كم) إلى الشمال من دمشق ياقوت ٤/ ٣٩٥.
(٤) ليست في ب، ط.
(٥) في أ و ط: وازدحمت.
(٦) في ب، ط: جاس.
(٧) الحرافيش: هم سفلة الناس وأراذلهم.
(٨) في أ و ط: المشمش.

<<  <   >  >>