للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصَّبر مع خُلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإنَّ المؤمن الذي يُخالط الناس؛ ليصبر على أذاهم أفضل مِنْ الذي لا يخالطهم ولا يُؤذونه.

والأفضل خُلطتهم في الخير؛ فهي خير مِنْ اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل مِنْ خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قَلَّلَه فخُلطتهم- حينئذٍ- أفضل من اعتزالهم.

فالأفضلُ في كل وقتٍ وحالٍ: إيثارُ مَرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومُقتضاه.

وهؤلاء هم أهل التعبُّد المُطلق، والأصناف قَبلهم أهل التعبد المُقَيَّد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلَّقَ به من العبادة وفارقه يَرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يَعبد الله على وجهٍ واحدٍ، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبدٍ بعينِه يُؤثره على غيره، بل غرضه تَتَبُّع مرضاة الله تعالى أين كانت؛ فمَدار تعبُّده عليها، فهو لا يزال متنقلًا في منازل العبودية، كلما رُفعت له مَنزلةٌ عَمِل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تَلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبُه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيتَ العلماءَ رأيتَه معهم، وإن رأيتَ العُبَّاد رأيتَه معهم، وإن رأيتَ المجاهدين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ الذَّاكرين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ المُتَصَدِّقين المُحسنين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ أربابَ الجمعيَّة وعُكُوف القلب على الله رأيتَه معهم، فهذا هو العبد المُطلق، الذي لم تَمْلكه الحدود، ولم تُقَيِّده القيود، ولم يَكن عملُه على مراد نفسِه وما فيه لِذَّتُها ورَاحتها من العبادات، بل هو على مرادِ ربِّه، ولو كانت راحة نفسه ولَذَّتها في سواه (١).


(١) انظر: «مدارج السالكين» لابن القيم (١/ ١٠٦ - ١١١).

<<  <   >  >>