للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا وفي هذه الآية دليل واضح على أنّ الله سبحانه خالق الهدى، والضلال، والكفر، والإيمان، فاعتبروا أيها السّامعون، وتعجّبوا أيها المفكرون من عقول القدرية والمعتزلة القائلين بخلق إيمانهم، وهداهم، فإنّ الختم هو الطّبع، فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا؛ وقد طبع على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون؟! أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم، وأصمهم، وأعمى أبصارهم {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضلّه، وخذله؛ إذ لم يمنعه حقّا وجب له، فتزول صفة العدل، وإنّما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم. انتهى. قرطبي.

أقول: ولو تركهم وشأنهم؛ لما اختاروا غير الكفر قطعا، هذا وقد شبه قلوبهم لتأبّيها الحق، وأسماعهم وأبصارهم لارتفاعها عن تقبل نور الهداية بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغشى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، واستعار لفظ الختم، والغشاوة لذلك بطريق الاستعارة التصريحية؛ لأنه ليس تغشية على الحقيقة، وإنما المراد بها أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر، والمعاصي، واستقباح الإيمان، والطاعات. قال سليمان الجمل- رحمه الله تعالى-: وحيث أطلق القلب في لسان الشرع؛ فليس المراد به الجسم الصنوبري الشّكل؛ فإنه للبهائم، والأموات، بل المراد به معنى آخر، سمّي بالقلب أيضا، وهو جسم لطيف قائم بالقلب اللحماني، قيام العرض بمحله، أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب هو الذي يحصل منه الإدراك، وترتسم فيه العلوم والمعارف. انتهى.

تنبيه: وحّد السمع دون القلوب والأبصار لأمن اللّبس، ولأنه في الأصل مصدر، يقال:

سمعت الشيء سمعا، وسماعا، والمصدر لا يثنى، ولا يجمع؛ لأنه اسم جنس، يقع على القليل، والكثير، فلا يحتاج فيه إلى تثنية، أو جمع، انتهى. نسفي. وقيل: وحّد السّمع؛ لأن مدركاته نوع واحد، وهو الصّوت، ومدركات القلب والبصر مختلفة، وإنّما خصّ الله تعالى هذه الأعضاء بالذكر؛ لأنها طرق العلم، فالقلب محل العلم، وطريقه إما السّماع وإما الرؤية. انظر سورة (الملك) جيدا.

{وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} قوي مستمرّ، فهو وعيد، وبيان لما يستحقّونه، والعذاب: كالنكال وزنا ومعنى، تقول: عذب عن الشيء، ونكل عنه: إذا أمسك، ومنه: الماء العذب؛ لأنه يقمع العطش، ويردعه، ولذلك سمي نقاحا، وفراتا.

الإعراب: {خَتَمَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {عَلى قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، وفيها معنى التعليل لعدم قبولهم الإيمان. {وَعَلى سَمْعِهِمْ:} معطوفان على ما قبلهما. {وَعَلى أَبْصارِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {غِشاوَةٌ:}

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين، هذا وقال الأخفش: {غِشاوَةٌ} فاعل بالجار والمجرور، وهذا يوجب تقدير

<<  <  ج: ص:  >  >>