للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قوله: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش)]

قال: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) ، حديث حسن رواه أبو داود وغيره] .

هذا الحديث حكم الشيخ عليه بأنه حسن، وكثير من الناس يقول: إنه ضعيف، بسبب محمد بن إسحاق أحد رجال سنده، وقد أطال الكلام عليه الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه: تهذيب السنن، وأجاب عن كل ما قيل في ابن إسحاق وفي النهاية قال: ذنب ابن إسحاق كونه خالف الجهمية، وقال: إن الحديث صحيح، وله طرق متعددة، وكذلك قال غيره مثل محمود أحمد بن محمود الطشتي فإنه حكم بأنه صحيح، وهو مروي عن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت سحابة، فقال: ما تقولون في هذه؟ فقلنا: السحاب، فقال: والمزن، فقلنا: والمزن؟ فقال: والعنان؟ فقلنا: والعنان، ثم سكت ثم قال: أتدرون ما بين السماء والأرض مسيرة كم؟ قلنا: لا، فقال: إما اثنتين وسبعين أو ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين سنة، وما بين سماء وسماء كذلك إلا أن ذكر السماء السابعة ثم قال: وفوق السماء السابعة بحر بينه وبين السماء مثل ما بين السماء والأرض، وكثافته مثل ما بين السماء والأرض، وفوق البحر عرش الله، والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه) ، وجاء في روايات غير هذه أن المسيرة تختلف، وأنها خمسمائة سنة، وجاء أكثر وأقل، وقد تكلم الحفاظ على هذا، وقالوا: الجواب عن ذلك: أن هذا يختلف باختلاف السير، فالسير يكون مسرعاً ويكون بطيئاً، وخمسمائة عام مسافة شاسعة جداً وهو كذلك، وقد جاء قول الله جل وعلا: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] وهذه الآية فيها خمسة أقوال للمفسرين، أحدها أن هذا مسافة ما بين الأرض إلى العرش، والعلم عند الله جل وعلا، ولكن هذا يدلنا على أمور: الأول: أن السماء حقيقة مبنية بناء حقيقياً، لها كثافة وسكان، وأنها سبع سموات واحدة فوق الأخرى، وهذا الذي دل عليه القرآن، وهذه السماء التي نرى فوقنا هي السماء، وليست كما يقول ملاحدة اليوم وغيرهم: إنها فضاء، وإن الكواكب تسبح في الفضاء، وبعضها فوق بعض، أما أن يكون هناك شيء مبني فلا، ويقولون: إننا إذا صعدنا إلى فوق تزول هذه التي نراها، وأصبح لا يرى شيء أصلاً، ولو ذهبت الصواريخ مهما ذهبت ما تجد إلا السماء فوقها، وهؤلاء لا يستطيعون أن يصلوا إلى السماء، ولا قريباً منها، بل يقفون عند حدهم، فهم ضعفاء، والسماء بعيدة جداً، ولكن لابد للمرئي الذي يرى أن يكون له شيء يقابله فينعكس به فتحصل الرؤيا، فإذا ذهب أثر المقابل فلا يرى شيء، من شدة البعد تنعدم الرؤيا نهائياً، فهذا هو السبب، ثم نحن نؤمن بما قال ربنا الله جل وعلا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:٦] ، ويأمرنا أن ننظر إليها ونكرر النظر فيرجع البصر خاسئاً وهو حسير، ما يجد فيها أي عيب، فهل يأمرنا جل وعلا أن ننظر إلى العدم؟ هل نصدق هؤلاء الملاحدة أم نصدق ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا؟ فقد كثر عند بعض الناس الكلام في السماء، وأنه ليس هناك إلا فضاء، وهذا خطأ، فإن السماء فوق، ولها مسافة، ثم إن السماء لها سكان، والسماوات عددها سبع كما جاءت النصوص الكثيرة جداً، وكل واحدة فوق الأخرى، وكل سماء أوسع وأكبر من التي تحتها، حتى تكون السماء السابعة أوسع السماوات وأعظمها وأكبرها، ثم فوقها بحر عظيم كما ذكر، وهذا البحر هو الذي عليه عرش الرحمن جل وعلا، ثم الله فوق العرش، وكل هذه المخلوقات بالنسبة لله صغيرة حقيرة ليست شيئاً؛ لأنه إذا كان يوم القيامة يضعها في يده وفي كفه تعالى وتقدس، ويقبضها كلها كما أخبرنا في القرآن.

ثم إن هذا يدلنا على أن العرش مخلوق، وأنه أعظم المخلوقات وأرفعها، وليس فوقه شيء إلا رب العالمين تعالى وتقدس، وهو يعلم ما أنتم عليه، حيث لا يخفى عليه شيء مما يجري من مخلوقاته كلها، ومن ذلك ما يكنه العباد في نفوسهم، وما يعملون، وهذا المعنى جاء في كتاب الله، حيث جمع بين استوائه، وأنه معنا كما قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤] ، فهو جل وعلا يجمع بين علوه واستوائه وبين كونه معنا، وهذا هو معنى قول السلف: إنه مع خلقه بعلمه، وإلا فهو على عرشه، وقد سبق الكلام على هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

<<  <  ج: ص:  >  >>