للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حديث: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)

قال رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه.

] معنى (أربعوا) أي: أرفقوا بأنفسكم يعني: لا تكلفوا أنفسكم، ولا ترفعوا أصواتكم، فيشق ذلك عليكم، (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) .

هذا الحديث يدل على المعية، وهذه المعية لا تنافي القرب، ولكن الفرق بين المعية والقرب سيأتي، ويدلنا هذا الحديث على أن الذكر برفع الصوت منهي عنه، فالذكر يكون مع خفض الصوت؛ وذلك لأن الله مع الإنسان يسمعه ولا يخفى عليه شيء، وقد قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:٥٥] يعني: بينك وبين نفسك، وهذا أفضل الذكر، إلا الأمور التي ورد أنها تستثنى من ذلك، مثل التلبية، فإنه جاء استحباب رفع الصوت بها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج) ، والثج هو: نحر الدماء وإراقتها تقرباً إلى الله، والعج: رفع الصوت بالتلبية، وهذا يكون للرجال، فهذا مستنثى لورود النص به، أما ما عدا ذلك فإن الذكر يكون إخفاؤه أفضل، ويجوز أن يكون جهراً، ولكنه يكره لهذا الأمر، والسبب في هذا أنه إذا كان بين الإنسان وبين نفسه فإنه أدعى إلى التفكر، وأدعى إلى الخشوع، وأدعى إلى الإخلاص، ومن الأمور المستثناة أيضاً ما ورد في حديث ابن عباس وغيره -وهو حديث صحيح- من رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة يرفعون أصواتهم بالذكر لاسيما بعد صلاة المغرب وصلاة الفجر حتى يسمع ذلك من خارج المسجد، وحتى يكون للمسجد ارتجاج من أصواتهم، فهذا أيضاً يستثنى من ذلك.

وقوله: (أيها الناس!) خطاب عام ولكن يقصد به من يذكر الله جل وعلا.

وقوله: (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) الأصم: الذي لا يسمع، والغائب: لا يبصر، ومعنى ذلك أن الله سميع بصير، فالذي تدعونه سميعاً بصيراً، يسمعكم وإن أخفيتم الذكر، ويراكم ولا يخفى عن نظره شيء، لا في بواطنكم ولا في ظواهركم؛ لأن نظر الله جل وعلا لا يحجبه حائل؛ ولهذا في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) ، وبصره لا شيء يحول بينه وبين منتهاه أبداً، فبصره ينتهي إلى كل شيء، فهو بصير بكل شيء تعالى وتقدس.

<<  <  ج: ص:  >  >>