للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله)]

قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:٩١-٩٢] .

سبق الكلام عن هذه الآية، ولكن بقي شيء: وهو أن هذه الآية يقول عنها المتكلمون: إنها دليل التمانع، والتمانع: يكون في الخلق والإيجاد والملك، وقد جعلوه دليلاً على وجود الله جل وعلا، وهو دليل واضح جلي، وإن كان لا يعرفه إلا العقلاء والعلماء، ولكنه قاطع، وقد نوزعوا في هذا؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١] وهذا من الكمال؛ لأنه جل وعلا غني بذاته عن كل ما سواه، ولأنه جل وعلا لا مثل له، ولا سمي له، والولد يتخذ لحاجة، والله غني لا يحتاج إلى شيء، وهو جل وعلا صمد، والصمد: هو الذي تصمد إليه الخلائق لحوائجها؛ لأنه مستغنٍ بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وكذلك يقول السلف: الصمد: الذي لا جوف له، وبعضهم يقول: الصمد: الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء، والله جل وعلا يطعم ولا يطعم كما جاء في قراءة، فهو جل وعلا لا يحتاج إلى شيء، ومنزه عن الحاجات من الأكل والنوم وما أشبه ذلك كالولد.

وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١] ، فهذا في الألوهية والعبادة، أما التمانع: فهو في الخلق والإيجاد والملك، ودليل التمانع هو قولهم: إن المشاهد من هذا الكون أنه متسق على نظام واحد، ونسق واحد، لا اختلاف فيه، ومن المعلوم عقلاً: أن هذا الكون لو كان له أكثر من صانع فلا يمكن أن يكون على هذا الاتساق والاتفاق؛ لأن التقديرات العقلية تكون على ثلاثة أمور: التقدير الأول: إذا وجد أكثر من واحد يتصرف ويملك فلا يخلو الأمر من أن يكون أحدهما مسيطراً على الآخر، فيكون المسيطر هو الإله الذي يجب أن يكون هو الخالق والمالك، فإن كان كذلك بطل أن يكون له شريك.

التقدير الثاني: أن يعجز كل واحد عن السيطرة على الآخر، فإذا وجد ذلك، فلابد أن ينفرد كل واحد بخلقه وبتصرفه، كما هو المشاهد في ملوك الدنيا، فإن الملك إذا لم يستطع السيطرة على الآخر انفرد بملكه، وصار له مكان محدد؛ لأنه عجز عن السيطرة على الآخر، ولو كان الأمر كذلك لحصل التفاوت بين المخلوقات؛ لأن كل واحد سيتميز عن الآخر بخلقه وإيجاده وملكه وتصرفه، والمشاهد عكس ذلك، فيبطل هذا التقدير كما بطل التقدير الأول؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك إلهان اثنان يتفقان، فدل هذا على أن الخالق واحد وهو الله جل وعلا، وهذا هو التقدير الثالث.

ومثاله: مثل الشمس نراها تخرج من جهة الشرق بنظام متسق، وتذهب إلى جهة الغرب دائماً، ولا تتجاوز مسيرها، كل يوم لها مسير محدد معين، وهكذا طوال ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، كل يوم لها مطلع ومغرب، ولها مسير، ولا تتغير عن ذلك، فهذا تقدير ملك صابر قاهر ليس معه معاون ولا مناوئ، وهكذا في غير ذلك من الأمور.

فالتمانع معناه: أن هذا الاتساق والنظام يمنع أن يكون له مشارك، فسمي التمانع، ولكن الآية في الواقع تمانع في الإلوهية، وهذا الذي ذكروه تمانع في الخلق والإيجاد والملك والتصرف، والآية المقصود بها: التمانع في الحق والتأله والتعلق، فهو جل وعلا يخبر عباده أنه لو كان معه في السموات أو في الأرض إله يعبد ما استقامت السماوات والأرض ولفسدت؛ لأنه يستحيل أن يعطى العبد المملوك المقهور حق الرب القاهر المتصرف، وقد يأنف الإنسان من أن يشاركه عبده المملوك في ماله، وفيما يتصرف به وهو مثله، فكيف يكون مشاركاً لله جل وعلا عبيد مقهورون ناقصون لا يملكون شيئاً؟! لا تستقيم الأحوال على هذا، فلهذا كرر ذلك في آيات متعددة، فيمتنع أن يكون مع الله جل وعلا معبود آخر.

وفي قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:٧٣] ، سبق أن الغيب ينقسم إلى قسمين: غيب مطلق وغيب مقيد.

أما المطلق: فهو الذي لا يطلع عليه إلا الله جل وعلا، كعلم الساعة مثلاً، وكون الإنسان لا يدري في أيِّ وقت يموت؟ وفي أيِّ ساعة يموت؟ وفي أيِّ أرض يموت؟ ومتى ينزل الغيث؟ وما في الأرحام هل هو مؤمن أو كافر؟ أو كامل الخلقة أو ناقصها؟ أو عمره مستكمل أو ناقص؟ أو غير ذلك مما تفرد الله جل وعلا بعلمه.

وأما الغيب المقيد: فهو ما أطلع الله جل وعلا عليه بعض خلقه دون بعض، فالذي أطلع عليه يكون بالنسبة إليه شهادة، والذي غاب عنه يكون غيباً، والغيب لا يخرج عن هذين القسمين، وأكثره ما اختص الله جل وعلا به.

أما ما يطلع الله جل وعلا به بعض عباده؛ فهذا ليكون آية على صدقهم، وعلى أن الله أرسلهم، كما قال جل وعلا في حق النبي: {إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن:٢٧] ، يعني: أنه يوجد أمور يخبر بها تدل على صدقه، وأنها من عند الله جل وعلا، ولا دخل للمخلوق فيها؛ تكون آية للنبي، كما كان عيسى عليه السلام يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، يخبرهم بالشيء الذي في بيوتهم، والشيء الذي أكلوه، وهذا من تعليم الله جل وعلا له ليكون آية على صدقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>