للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال)]

وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٧٤] .

الأمثال: هي الأقيسة العقلية، والأقيسة لا تصح إلا بين المتماثلين أو المتقاربين على أقل تقدير، أما بين المخلوق والخالق فلا يصح ذلك؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولأنه لا سمي له ولا ند له ولا مثيل له، ولهذا قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٧٤] ، فالأمثال: هي القياس، ولا يجوز أن تضرب لله جل وعلا الأقيسة لا قياس الشمول ولا قياس التمثيل.

فقياس الشمول: هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويكثر في كلام المناطقة وأهل الكلام.

أما التمثيل: فهو قياس معروف في أصول الفقه: إلحاق فرع بأصل في الحكم، لعلة تجمع بينهما، وهذا لا يجوز أن يستعمل في حق الله جل وعلا، وكذا قياس الشمول الذي تستعمل فيه أداة الشمول والعموم كما يستعمله المتكلمون، فهذا باطل بنص قول الله جل وعلا: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤] ، وضرب الأمثال يكون للجاهل الذي لا يعرف ربه جل وعلا، فيضرب له المثل تعالى الله وتقدس؛ لأن المثل يجعله متعارفاً عليه بين المخلوقين، وهذا لا يجوز بحال، والسبب في هذا: أن الله جل وعلا لا مثل له في ذاته، فذاته جل وتقدس لا تشبه شيئاً من ذوات الخلق، وهذا أمر متفق عليه بين جميع الفرق من أهل الإسلام، لا يخالفون في هذا حتى الجهمية يقرون بهذا ويؤمنون به، وهذا أمر متفق عليه، فمن المعلوم أن الصفات تبع للذات، يحتذى فيها حذوها، فمن كان في ذاته لا مثل له يجب أن يكون في صفاته لا مثل له، فكما أنه في ذاته لا مثيل له فهو كذلك في صفاته لا مثيل له.

ومن هنا نهي عن ضرب الأمثال، ولكن استثني في مثل قياس الأولى: وقد اختلف في المراد به، ما المراد بمثل قياس الأولى؟ فمثل الأولى -الذي اشتهر عن السلف- أن الكمال الذي يتصف به المخلوق، ولا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه، وأمكن أن يتصف به الخالق فاتصاف الخالق جل وعلا به أولى؛ لأنه تعالى هو الواهب للكمال، ولا يمكن أن يكون واهب الكمال معدوماً.

ومن الأمثلة على هذا: أن الله جل وعلا قد عاب على المشركين كونهم يعبدون من لا ينطق ولا يسمع، يعني: لا يرد الجواب، ولا يسمع الخطاب، ولا ينفع ولا يضر، فدل هذا على أن الكلام كمال، والسمع كمال، والنفع كمال، والضر بمن يستحقه كمال، فيكون الرب جل وعلا موصوفاً بذلك، فهذا يدلنا على أن مثل الأولى لا يثبت به الشيء لاستقلاله، وإنما يقال عند المجادلة وعند إقرار الحق لمن ينكره ويخاصم به، فإن هذا يلزمه، فالكلام -مثلاً- الذي ينفيه عن الرب جل وعلا ويزعم -كما سيأتي- أنه نقص أو أن فيه تشبيه، يقال -باتفاق العقلاء: إن المتكلم أكمل ممن لا يستطيع الكلام، والكمال في المخلوق ليس الكمال الذي يكسبه المخلوق بنفسه، وليس الذي يكسبه إياه مخلوق آخر مثله، فلابد أن يكون الذي أكسبه هذا الكمال هو الخالق جل وعلا، فكيف يعطي الخالق العبد هذا الكمال وهو عار منه؟! هذا لا يجوز أن يكون ولا يصح حتى في العاقل فكيف بالخالق؟! ثم هذا في الأصل، ولا يلزم المماثلة في أن كلام الرب جل وعلا ككلام المخلوق، ولكنه يماثله في الأصل الذي هو أصل الكلام، وكونه يتكلم كلاماً يصدر منه ويسمع، وإلا فكلام الله لا يشبه كلام المخلوقين، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في الصحيح معلقاً، ورواه في خلق أفعال العباد مسنداً من حديث أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ، وصوت المخلوق لا يكون كذلك، وإنما يسمع من البعد بواسطة المكبرات والآلات، أما الرب جل وعلا فهو بخلاف ذلك، ولهذا ترجم البخاري على هذا وقال: باب: أن الله يتكلم وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوق.

فدل بهذه الترجمة على أنه غير مشبه له، وهذا هو قول الأئمة وهو الحق.

<<  <  ج: ص:  >  >>