للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القسم الثاني: القائلون بأنه لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه]

والقسم الثاني الذين يقولون: لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال العالم، وليس خارج العالم ولا داخله، وليس في مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تصح إليه الإشارة، ولا يحس بحاسة إلى آخره.

فأين يكون؟! يكون عدماً على حسب كلامهم هذا، فهؤلاء هم الذين يسمون: بالمعطلة، وهم في الواقع ملاحدة ينكرون وجود الله؛ لأنه لو قيل لأحدهم: ما هو العدم؟ لما أمكن أن يصفه بأكثر مما وصف به رب العالمين، تعالى الله وتقدس.

فالقسم الأول هو الذي رد عليه العلماء بقولهم: المعية المقصود بها العلم، يعني: لئلا يفهم أن الله مخالط خلقه ممازج لهم تعالى الله وتقدس، هذا مقصودهم بقولهم: المعية العلم، وإلا المعية ليست هي العلم وإنما العلم من لوازم المعية، ومعلوم أن علم الله في كل مكان، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأن علمه لا يتغير بقرب الزمن ولا بعده، ما علمه مما سيكون يوم القيامة وبعد الدنيا يقع على وفق علمه بلا زيادة ولا نقصان؛ لأن علمه كامل وتام تعالى وتقدس.

ولكن المعية أكثر من ذلك، المعية هي العلم والإحاطة والسمع والبصر وأن الخلق لا يخفون عليه ولا يعجزونه، وهذه كلها من المعاني التي تدل عليها كلمة (مع) في لغة العرب، بالنسبة لرب العالمين جل وعلا، وهو على عرشه تعالى وتقدس، ولكون هذا مقصوداً جمع الله جل وعلا بين علوه وبين معيته؛ ليعلم عباده أن علوه فوق خلقه كلهم لا ينافي معيته وقربه، وأن أخباره تتفق ولا تتضارب، ويجب أن تفهم على المقصود الذي أراده جل وعلا، وأن تصان عن الظنون السيئة، وعن الجهل الذي قد يدعو صاحبه إلى أن يعتقد شيئاً يجب أن ينزه الله جل وعلا عنه، كأن يقول في معنى: (وهو معكم) : أنه يكون مخالطاً لخلقه، ومعلوم أن هذا لا توجبه اللغة، فإن كلمة (مع) تستعمل مع كل من كان مهيمناً على الشيء ومسيطراً عليه يصح، ولو قدر مثلاً في الخلق أن صبياً في الشارع مثلاً يبكي أو يصيح، ويطلع عليه والده من سطح البيت، فيقول له: لا تخف أنا معك، لكان هذا الكلام صحيحاً، وليس فيه مخالفة للغة العربية، والمعنى: أنه مراقب له وأنه سوف يكون حافظاً له مما قد يؤذيه على قدر استطاعته؛ لأن المخلوق استطاعته محدودة، ولكن المقصود أن كلامه صحيح، وهذا إذا صح في المخلوق فكيف برب العالمين إذا أخبر أنه مع خلقه؟! كيف يكون هذا فيه مخالفة لكونه مستوياً على عرشه، لا يكون ذلك إلا لأحد رجلين: إما رجل جهل ربه فلم يعرف ربه المعرفة الواجبة، وإما أنه انحرفت نيته ومراده وقصده فأصبح يريد باطلاً؛ لأن الأمر واضح في هذا، ولهذا قال: (وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة) ، يعني: أن كلمة: (مع) لا تدل على المخالطة والممازجة، كما أنها لا تدل على المماسة.

وهذا واضح، لما قال جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:٢٩] ، فلا يلزم أن يكونوا مماسين له، بل معه على الإيمان وإن كانوا في بلد وهو في بلد، والكلام صحيح، فإذا كان هذا يصح في لغة العرب بالنسبة للمخلوقين، فكيف لا يصح بالنسبة للخالق جل وعلا؟! وهو كما قلنا: لا يجوز أن تكون صفاته مماثلةً لصفات خلقه، ثم هذا الكلام كله يعني: كونه مستوياً على عرشه عالياً على خلقه، وكونه معنا، كله حق يجب أن يفهم على حقيقته، وليس فيه مجاز كما يقوله المبطلون، لا في العلو ولا في المعية؛ لأنه مفهوم من كلام الله ومن قدرة الله وقوته وعظمته أنه على عرشه ومع خلقه، إذا أراد أن يقبضني بيده قبضني، فسماواته وأرضه تكون في يده صغيرة حقيرة، فإذا كان في هذا الوصف يصح جداً أن يقال: إنه معهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>