للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنما ولاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، لأنه ولى أخاه يزيد، واستخلفه يزيد، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق عثمان بعمر وأقرّه. فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها (١) . . . ولن يأتي أحد مثلها أبدا بعدها (٢) .


(١) هنا في الأصل كلمة " وأقدر " وبياض لكلمة أخرى، ولا يختل المعنى بسقوطهما.
(٢) إنما بلغت دولة الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الذروة في العزة، وكانت مضرب الأمثال في الفلاح الإنساني وسعادة المجتمع، لأن أبا بكر وعمر كانا يكتشفان بنور الله عز وجل كوامن السجايا في أهلها وعناصر الرجولة في الرجال، فيوليانهم القيادة، ويبوّئانهم مقاعد السيادة، ويأتمنانهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما يعلمان أنهما مسئولان عن ذلك بين يدي الله عز وجل. وقد رأيت في هامش ص٤٧ أن يزيد بن أبي سفيان وأخاه معاوية كانا من رجال دولة أبي بكر الصديق الذين اختارهم لحمل أعباء الأمة في حربها وسلمها فأحسن بذلك كل الإحسان. ولما ولي يزيد قيادة أحد جيوشه خرج معه أبو بكر يشيعه ماشيا (الطبري ٤: ٣٠) . ومعاوية مذكور في التاريخ بعد أخيه يزيد لأنه أصغر منه سنا، لا لأنه أقل منه في استكمال صفات القيادة والسيادة. وقبل أن يكون معاوية من رجال الدولتين البكرية والعمرية كان أحد الذين استعملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعان بهم، وكان يدعوه لذلك في بعض الأحيان - ومعاوية يأكل - ويلح في دعوته ويرسل إليه المرة بعد المرة يستعجله المجيء إليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم ولى معاوية شيئا من عمله قبل أن يوليه أبو بكر وعمر، وولى يزيد بن أبي سفيان أيضا كما في فتوح البلدان للبلاذري (ص ٤٨ طبع مصر سنة ١٣٥٠) . والذين يضطغنون البغضاء والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا سيما بني أمية منهم - لم يستطيعوا أن ينكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل معاوية في الكتابة له فقالوا إنه كان يكتب له ولكنه لم يكن يكتب الوحي. وهم يقولون هذا بوحي أوحي إليهم من الشيطان، وليس في يدهم نص تاريخي أو دليل شرعي يرجعون إليه، فميزوا بين أمور لا حجة لهم في التمييز بينها. والنبي صلى الله عليه وسلم لو كان يميز بين كتبته في أمور دون أمور لتواتر ذلك عنه ولنقله الناقلون كما وقع فيما هو أقل من هذا شأنا. سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال: ما تقول في معاوية؟ فقلت له: ومن أنا حتى أسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره. نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (٨: ١٣٣) عن الليث بن سعد (وهو إمام مصر وعالمها ورئيسها المتوفى سنة ١٧٥) قال: حدثنا بكير (وهو ابن عبد الله الأشج المدني ثم المصري المتوفى سنة ١٢٧ قال عنه الإمام النسائي: ثقة ثبت) عن بُسر بن سعيد المدني (المتوفى سنة ١٠٠ قال عنه ابن معين: ثقة، وقال عنه الليث بن سعد: كان من العباد المنقطعين أهل الزهد في الدنيا والورع) أن سعد بن أبي وقاص (أحد العشرة المبشرين بالجنة) قال: " ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب " يعني معاوية. وروى ابن كثير أيضا (٨: ١٣٥) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ (وكان ينسب إلى التشيع) ، عن معمر بن راشد أبي عروة البصري ثم اليمني وكان أحد الأعلام، عن همام بن منبه الصنعاني وكان ثقة قال: سمعت ابن عباس يقول: " ما رأيت رجلا أخلق بالملك من معاوية ". وهل يكون الرجل أخلق الناس بالملك إلا أن يكون عادلا حكيما، يحسن الدفاع عن ملكه، ويستعين الله في نشر دعوة الله في الممالك الأخرى، ويقوم بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله عليها؟ والذي يكون أخلق الناس بالملك هل يلام عثمان على توليته؟ ويا عجبا كيف يلام عثمان على توليته وقد ولاه من قبله عمر، وتولى لأبي بكر من قبل عمر، وتولى بعض عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تصير الخلافة إلى أبي بكر وعمر وعثمان. إن المخ الذي يعبث به الشيطان فيسوّل له مثل هذه الوساوس لا شك أنه مخ فاسد، يفسد على الناس عقولهم ومنطقهم قبل أن يفسد عليهم دينهم وتاريخهم، فمن الواجب على محبي الحق والخير أن يتحاموا كل من يحمل في رأسه مثل هذا المخ كما يتحامون المجذوم. روى الإمام الترمذي عن أبي إدريس الخولاني من كبار علماء التابعين - وأعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء - أن عمر بن الخطاب لما عزل عمير بن سعد الأنصاري الأوسي عن حمص وولى معاوية. قال الناس: عزل عميرا وولى معاوية قال البغوي في معجم الصحابة: وكان عمير يقال له (نسيج وحده) . قال ابن سيرين (إن عمر كان يسميه بذلك لإعجابه به. وكان عمير من الزهاد) فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم اهد به ". ويروى أن الذي شهد هذه الشهادة لمعاوية أمير المؤمنين عمر، فإن كان هو الذي شهدها له وروى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بأن يهدي الله به فذلك أمر عظيم لعظم مكانة عمر. وإن كان الذي شهد بذلك عمير بن سعد الأنصاري - مع أنه هو المعزول بمعاوية عن ولاية حمص - فإن ذلك لا يقل عظمة عما لو كانت الشهادة لمعاوية من عمر، وقد علمت أن عميرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه من زهاد الأنصار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (٣: ١٨٩) : وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ". ولم يتسع المقام هنا لأكثر من هذا، وسنكمل الصورة الحقيقية لمعاوية عند ذكر خلافته، لتعلم إلى أي حد كنا مخدوعين بأكاذيب أعداء الصدر الأول للإسلام.

<<  <   >  >>