للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[التمييز بين المستفتين]

٤ - التمييز بين المستفتين: فمن الحكمة الاجتهاد في أحوالهم في الأشياء التي يسوغ فيها الاجتهاد، فقد يُفتي للشيخ في أمر لا يُفتى به للشباب، فقد صح أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن القبلة للصائم فرخص له، وسأله آخر فلم يرخص له، فتبين أن الذي رخص له كان شيخا كبيرا، وأن الذي منعه كان شابا (١) .

ومن هذا النوع إتقان باب المفاضلات بين العبادات والأقوال والأشخاص وغيرهم، جنسا وقدرا، وتنقيح المناط في المستفتين، والاجتهاد في المسترشدين: " فعلى المتكلم في هذا الباب أن يعرف أسباب الفضل أولا، ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض، والموازنة بينها ثانيا، ثم نسبتها إلى من قامت به ثالثا كثرة وقوة، ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعا، فرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالا لغيره، بل كمال غيره بسواها؛ فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه، وكمال أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا؛ فهذه أربعة مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل، وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص وأبعد من الهوى والغرض، وهاهنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصره الله، وهي أن كثيرا ممن يتكلم في التفضيل يستشعر نسبته وتعلقه بمن يفضله ولو بعد ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله، وتكون تلك النسبة والتعليق مهيجة له على التفضيل والمبالغة فيه، واستقصاء محاسن المفضل والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضل عليه بالعكس، ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه من هذا، وهذا منافٍ لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها ولا يرضى غيرها، ومن هذا تفضيل كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ كل منهم لمذهبه وطريقته أو شيخه، وكذلك الأنساب والقبائل والمدائن والحرف والصناعات، فإن كان الرجل ممن لا يشك في علمه وورعه خيف عليه من جهة أخرى،


(١) صحيح رواه الإمام أحمد (٢ / ١٨٥، ٢٢٠) ، وأبو داود (٢ / ٧٨٠) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <   >  >>