للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمضى جماعة إلى الوالي، وكان الوالي جيش بن صمصامة فقال: احملوه على نعش، واتركوه على باب داود يحمله من أراد من أصحابه، ويكفنه ويصلي عليه. قال: فألقوني على باب داود، وعنهم أني ميت، فقوم يجوزون بي فيلعنونني وأنا أسمع، وقوم يترحمون علي، إلى العشاء الآخرة، فلما كان بعد العشاء جاءني أربعة أنفس فحملوني على نعش مثل السرقة، ومضوا بي إلى دار رجل صالح من أهل القدس، من أهل القدس، من أهل القرآن والستر كي يغسلوني، ويكفنوني، ويصلوا علي، فلما صرت في الدار أشرت إليهم، فلما رأوا في الحياة حمدوا الله تعالى. فكان يصلح لي الحريرة بدهن اللوز والسكر البياض أسبوعاً، وأنا على حالة قد يئست من نفسي، وكل صالح في البلد يجيء إلي ويفتقدني، فلما كان بعد ذلك رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام والعشرة معه، فالتفت إلى رجل على يمينه فقال: يا أبا بكر، ما ترى قد جرى على صاحبك؟ فقال: يا رسول الله، فما أصنع به؟ قال: اتفل في فيه. فتفل أبو بكر الصديق في في، ومسح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ظهري، فزال ما كنت أجده، وانتبهت ببرد ريق أبي بكر رضي الله عنه. فناديت الرجل الذي أنا في بيته، فقام إلي، ولم يكن سمع مني كلمة منذ دخلت إلى داره. فقال: ما حالك؟ فأخبرته خبري وسألته ماء أتطهر به، فأسخن لي ماء فتطهرت طهور الآخرة، وجاءني بثياب ونفقة، وقال: هذه فتوح من إخوانك، فلبست وتطيبت. فقال لي الرجل: الله، الله في، لا يعلم أحد أنك كنت عندي فأهلك. فقلت له: لا بأس عليك. وجئت إلى منارة مسجد عمر رضي الله عنه، وأذنت الغداة: الصلاة خير من النوم، وقلت قصيدة في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، فما تمت إلا والعبيد أحدقوا بالمنارة، وأخذوني إلى الوالي، وأراد أن يستنطقني، ولم يكن رآني قبلها ولا رأيته، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من واسط العراق. فقال لي: يا هذا، إني عبد مملوك، وأخاف من أصحاب الأخبار أن يكتبوا بأمرك فأومر بقتلك فأخلد بك في النار، فأقل ما يجب لي عليك أن لا تقيم في بلدي ساعة واحدة. فقلت: تسمح لي ببياض هذا اليوم؟ فقال: افعل. فجئت إلى الصخرة، وأقمت بها بقية يومي، وصليت العتمة، وجاء الإخوان مودعين لي، وجاء من أحداث البلد نحو سبعين ومعهم بهيمة وسلاح نشاب، وخرجت معهم، وأتيت واسط، وأنا كل سنة أحج وأسأل عن القدس، لعله تزول دولتهم، فأرجع إلى القدس، لعلي أموت فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>