للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الزعفراني: قلت لأبي الحارث الأولاسي: أنا أعرفك أمير الحرب بنصيبين، فأيش الذي أخرجك إلى الله؟ قال: غدوت في آخر الليل إلى الحمام وكان على باب داري، فإذا أنا بأنين في القامين، فعدلت فإذا برجلٍ عليل، مطروح في الزبل عريان، فقلت له: لك حاجة؟ فقال لي: أريد يزال ما علي من وسخ، وثوب نظيف، ورائحة طيبة، وطعام طيب. فقلت: هات يدك؛ فأدخلته معي الحمام فنظفته وتقلدت أنا خدمته، وأخرجته إلى ثوبٍ من ثيابي، وأحضرت طعاماً طيباً، وطيبته وقلت: لك من حاجة؟ فقال لي: جبرك الله. ومات، فكفنته ودفنته، فلما كان العصر خرجت إلى الله في عباءة.

قال أبو الحارث: رأيت في منامي كأني واقفٌ بين يدي الله، فقال لي: يا عبدي سل حاجتك. فقلت: يا رب! تعلم حاجتي. فقال: أنا أعلم. وكيف لا أعلم وأنا كونتها وكمنتها في صدرك؟! ولكن أحب أن أسأل، والمسارعة في اتباع محبتي منك أولى بك من التعلق بمحبتك، أسرع وأسبق منك إلى أن بدأت تركيبها في قلبك من قبل أن تعقلها، وأطلقت لسانك بمسألتها عندي. اجمع بين مرادي من الأمور كلها وبين مرادك مني. فإن يكن مخالفاً لمرادي فإنك لن تزال في دهرك منقطعاً عني، فابتغ عندي محابي من الأمور وإن خالف منك المحبة. أجهد بدنك، واحذر الخلاف في اتباع الهوى بحب دارٍ أبغضتها وحذرتكها وأخرج قلبك منها، وكن فيها حذراً، فإن متاعها قليل، والعيش فيها قصير، وتقرب إلي ببغضها وبغض أهلها، وكن متحرزاً منها ومن أهلها، وقف بين يدي مقام من أسقط نفسه وحيلته وتعلق بمالكه.

قال أبو الحارث:

رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم كأنه معرض عني فقلت: ما أعرضك عني؟ بأبي وأمي، فقد فهمت عنك ما أمرتني ولكن أخاف أن أكون قد حرمت التوفيق. فقال: لا ولكن ليس ثم داعية يحركك لطلب، ولا رهبة تقلقك لهرب، فأنت بين الآمال الكاذبة متردد حيران قد

<<  <  ج: ص:  >  >>