للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشهادات، لا يسمع ذلك في غير ذلك الوقت، ولا يخلو به أحد في مجلس نظره، ولا داره. ولا يقرأ كتاباً لأحد في سبب خصومه، ولا يرخص إليه. قال ابن وضاح: تولى محمد بن بشير القضاء، طبع عشر طوابع يرفع بها الناس إليه. ثم لم تزل في خريطته بعينها، إلى أن مات. فإذا سأله رجل طابعاً لرفع خصم كشفه له، عما يريده له. فإن كان قريباً بقرطبة أعطاه إياه، وأمر كاتبه يزمُّ اسمه ومسكنه، واسم من أخذ الطابع فيه، ويعهد إليه بصرف الطابع إليه، إذا حضر خصمه، ويعنفه ويدعوه إن كان أخذه مبطلاً، فإن كان بعيداً أجل له بقدر بعده. قال يحيى لمحمد بن

بشير: إن الحالات بالناس تتغير، ولا تثبت. فإذا عدل عندك الرجل فحكمت بشهادته عن صحة نظر، حتى تطاول العهد وعادت الشهادة عندك، فأعد فيه نظرك، وكلفه التعديل، إن رابك، واستأنف الكشف عنه، فعمل بذلك وأخذ الشهود وحذرهم منه. وكان ابن بشير يشاور في قضائه عبد الملك بن الحسن زونان والغازي بن قيس، والحارث ابن أبي سعد، وإسماعيل ابن البشير التجيبي، ومحمد بن سعيد السبائي. قال ابن حارث: وكانوا إذا اختلفوا عليه، كتب إلى مصر إلى عبد الرحمان بن القاسم، وعبد الله بن وهب، قال القاضي أسلم عبد العزيز بن بقي بن مخلد؛ قال: كانت لمحمد بن بشير في قضائه مسالك رقاق، ومذاهب لطاف لم تكن لقاض قبله في الأندلس. ولا يقارن إلا بمن تقدم في صدر هذه الأمة. ورأيت له غير سجل فوجدتها مختصرة جداً، محتوية على فص المعنى، من غير إكثار. إنما هي أسطار قليلة. خلاف ما يختلف الآن في زماننا من الكلام. ذكر بعضهم أن ابن سماعة صاحب الخيل، شكا إلى الأمير، أن ابن بشير يحيف عليه. فقال: أنا أمتحن قولك الساعة بواحدة. أخرج من فورك فاقصده، واستأذن عليه. فإن إذن لك صدقت قولك وعزلته. وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه. فخرج نحوه، فلما استأذن عليه خرج الإذن له أن كانت لك حاجة فاقتصد لذكرها مجلس القضاء. إذا جلس القاضي فيه، فلا سبيل إلى لقائه. وأعلم الأمير بذلك، فوافقه. قال قاسم بن هلال: شهد عند ابن بشير رجل من أهل البادية في معارفه، فاحتاج إلى تعديله، فدخلت أنا وابن مرتيل وثالث معنا. فقال: ما جاء بكم؟ قلت لأعدل هذا الرجل. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبها كان يستفتح حكومته. قال قاسم: فلما سمعته قهقرت، فحوّل وجهه نحونا. وقال لنا: الله الذي لا إلاه إلا هو إنه عندكم رضى. فقلنا له: بيمين أصلحك الله. قال والله لا أكتب له اسماً إلا أن تحلفوا بها، أنه كذلك. فتورعنا وانصرفنا. وشهد عنده رجل، رافقه من الحج، له منه مكانة، فلم يقبل شهادته. فقال الخصم: عرفني بمن لم تقبل، لأنظر في تعديله. فقال له محمد: فلان صاحبي. ولن ينفعك تعديله عندي. فبلغ ذلك الرجل، فجاءه في مجلسه على رؤوس الناس وسأله عن سبب ذلك، وقال له: جمعنا وإياك المنشأ والحضر، وطلب العلم وطريق الحج، وعلمت من باطني ما علمت من باطنك فعرفني بالسبب أمام الناس، لأعرفه وأعرف بخطئي فيه أمام الجماعة. فقال ابن بشير: صدقت. وما عثرت لك في كل ذلك على جرحة في دينك، ولكن صدرنا من الحج فنزلنا مصر، وأخذنا في السماع من شيوخنا، والمقام بها، وشكوت لي الغربة ونظرت في شراء خادم، فقلت لي: وجدت خادماً تساوي على وجهها كذا وكذا، وبيدها صنعة. فقلت لك: لا حاجة لك بصناعتها. وإنما تشتريها للمتعة. فدعها فلا معنى للزيادة فيها. فعصيتني واشتريتها. فلما رأيت الشهوة قد غلبتك في إتلاف ذلك في المغالاة فيها، خشيت أن تكون مثلها، قادتك إلى مثل هذه الشهادة. وشهد عنده صديق له يكنى بأبي اليسع، فرد شهادته، فعتبه في ذلك وقال: على محبتي فيك وخاصتي بك. فقال له الورع: يا أبا اليسع الورع يا أبا اليسع. فلم يزده على ذلك. وشهد عنده رجلان ممن يُظنُّ بهما خيراً لمملوكٍ لمتوفى، أن مولاه أعتقه وزّوجه ابنته، وأوصى إليه بماله، وقضى بشهادتهما، فلم يلبث أحد الشاهدين أن حضرته الوفاة، فأوصى إلى القاضي أنه يريده. فدخل عليه، فلما أبصر به الشاهد، وهو في كربة، جثا على ركبتيه، وجعل ينجز إليه، فقال له القاضي: ما شأنك؟ فقال إني في النار إن لم تنقذني منها. الشهادة التي شهدت بها عندك بفلان لم يكن منها شيء فاتق الله وافسخ الحكم. فلم يزد محمد بن بشير على أن وضع يديه على ركبتيه، ثم قام وجعل يقول قضي الحكم، وأنت في النار. وخرج عنه. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: ما فعله ابن بشير من إمضاء الحكم صواب، وقوله وأنت في النار دون استثناء. لعله قصد به الإغلاظ لأمثاله من شهداء السوء. وإلا فحتمية الله في العفو عنه. من وراء هذا بفضلة، بقبول توبة مثله، ومحو سيئته بها، موعود به. بشير: إن الحالات بالناس تتغير، ولا تثبت. فإذا عدل عندك الرجل فحكمت بشهادته عن صحة نظر، حتى تطاول العهد وعادت الشهادة عندك، فأعد فيه نظرك، وكلفه التعديل، إن رابك، واستأنف الكشف عنه، فعمل بذلك وأخذ الشهود وحذرهم منه. وكان ابن بشير يشاور في قضائه عبد الملك بن الحسن زونان والغازي بن قيس، والحارث ابن أبي سعد، وإسماعيل ابن البشير التجيبي، ومحمد بن سعيد السبائي. قال ابن حارث: وكانوا إذا اختلفوا عليه، كتب إلى مصر إلى عبد الرحمان بن القاسم، وعبد الله بن وهب، قال القاضي أسلم عبد العزيز بن بقي بن مخلد؛ قال: كانت لمحمد بن بشير في قضائه مسالك رقاق، ومذاهب لطاف لم تكن لقاض قبله في الأندلس. ولا يقارن إلا بمن تقدم في صدر هذه الأمة. ورأيت له غير

<<  <  ج: ص:  >  >>