للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَسْتَنْبِطُونَهُ أَيْ: يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَتْبَعُونَهُ، يُرِيدُ الَّذِينَ سَمِعُوا تِلْكَ الْأَخْبَارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى ذَوِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: يُحِبُّونَ أَنْ يَعْلَمُوهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا هُوَ، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} [النساء: ٨٣] كلكم، {إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: ٨٣] فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَثْنَى الْقَلِيلَ وَلَوْلَا فَضْلُهُ لَاتَّبَعَ الْكُلُّ الشَّيْطَانَ؟ قِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَذَاعُوا بِهِ إلا قليلا لم يفشه، وعنى بِالْقَلِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ: لِأَنَّ عِلْمَ السِّرِّ إِذَا ظَهَرَ عَلِمَهُ الْمُسْتَنْبَطُ وَغَيْرُهُ، وَالْإِذَاعَةُ قَدْ تَكُونُ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ) كَلَامٌ تَامٌّ، وَقِيلَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ، وَرَحِمْتُهُ: الْقُرْآنُ، يَقُولُ: لَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا، وَهُمْ قَوْمٌ اهْتَدَوْا قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَجَمَاعَةٍ سِوَاهُمَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا يُدْرَكُ بِالتِّلَاوَةِ وَالرِّوَايَةِ وَهُوَ النَّصُّ، وَمِنْهُ مَا يُدْرَكُ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَعَانِي المودعة في النصوص.

[٨٤] قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: ٨٤] وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعَدَ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ حَرْبِ أُحُد مَوْسِمَ بَدْرٍ الصُّغْرَى فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَلَمَّا بَلَغَ الْمِيعَادُ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: ٨٤] أَيْ: لَا تَدَعْ جِهَادَ الْعَدُوِّ والاستنصار لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَوْ وَحْدَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكَ النُّصْرَةَ وعاقبهم عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَقَاتِلْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: ٧٤] فَقَاتِلْ، {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ} [النساء: ٨٤] أَيْ: حُضَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَرَغِّبْهُمْ فِي الثَّوَابِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا فَكَفَاهُمُ اللَّهُ الْقِتَالَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {عَسَى اللَّهُ} [النساء: ٨٤] أَيْ: لَعَلَّ اللَّهَ، {أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: ٨٤] أي: قتال الْمُشْرِكِينَ و (عَسَى) مِنَ اللَّهِ واجب، {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} [النساء: ٨٤] أَيْ: أَشَدُّ صَوْلَةً وَأَعْظَمُ سُلْطَانًا، {وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النساء: ٨٤] أي: عقوبة.

[٨٥] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: ٨٥] أَيْ نَصِيبٌ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ هِيَ الْمَشْيُ بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ حُسْنُ الْقَوْلِ فِي النَّاسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>