للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَلَوْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْقَلِيلِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ كَثِيرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا قَلَّ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْهُ وَكُلُّ مَا قَبِلَ اللَّهُ فَهُوَ كَثِيرٌ.

[١٤٣] {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: ١٤٣] أَيْ: مُتَرَدِّدِينَ مُتَحَيِّرِينَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: ١٤٣] أَيْ: لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَجِبُ لَهُمْ مَا يَجِبُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكُفَّارِ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: ١٤٣] أي: طريقا إلى الهدى.

[١٤٤] قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ١٤٤] نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، وَقَالَ: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: ١٤٤] أَيْ حُجَّةً بَيِّنَةً فِي عَذَابِكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنَازِلَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:

[١٤٥] {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّسَاءِ: ١٤٥] قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ (فِي الدَّرْك) بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ كالظعْن والظعَن والنهْر والنهَر، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} [النساء: ١٤٥] فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُقْفَلَةٍ فِي النَّارِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَيْتٌ مُقْفَلٌ عَلَيْهِمْ تَتَوَقَّدُ فِيهِ النَّارُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ، {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: ١٤٥] مَانِعًا مِنَ الْعَذَابِ.

[١٤٦] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء: ١٤٦] من النفاق وآمنوا {وَأَصْلَحُوا} [النساء: ١٤٦] عملهم {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء: ١٤٦] وَثِقُوا بِاللَّهِ {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: ١٤٦] أَرَادَ الْإِخْلَاصَ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّ النِّفَاقَ كُفْرُ الْقَلْبِ، فَزَوَالُهُ يَكُونُ بِإِخْلَاصِ القلب، {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ١٤٦] قَالَ الْفَرَّاءُ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ١٤٦] في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: ١٤٦] يَعْنِي: الْجَنَّةَ، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ (يؤت) فِي الْخَطِّ لِسُقُوطِهَا فِي اللَّفْظِ، وَسُقُوطُهَا فِي اللَّفْظِ لِسُكُونِ اللَّامِ فِي (اللَّهِ) .

[١٤٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ} [النساء: ١٤٧] أَيْ: إِنْ شَكَرْتُمْ نَعْمَاءَهُ {وَآمَنْتُمْ} [النساء: ١٤٧] بِهِ، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ آمَنْتُمْ وَشَكَرْتُمْ، لِأَنَّ الشُّكْرَ لَا يَنْفَعُ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ مَعْنَاهُ إِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ الشَّاكِرَ، فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ عِبَادَهُ لَا يَزِيدُ فِي مِلْكِهِ، وَتَرَكَهُ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَالشُّكْرُ: ضِدَّ الْكُفْرِ وَالْكُفْرِ سَتْرُ النِّعْمَةِ، وَالشُّكْرُ إِظْهَارُهَا، {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: ١٤٧] فَالشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الرِّضَى بِالْقَلِيلِ مِنْ عِبَادِهِ وَإِضْعَافُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، وَالشُّكْرُ مِنَ الْعَبْدِ الطاعة، ومن الله: الثواب.

[قوله تعالى لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ] إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا. . . .

[١٤٨] قَوْلُهُ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: ١٤٨] يَعْنِي: لَا يُحِبُّ اللَّهَ الْجَهْرَ بِالْقُبْحِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يُخْبِرَ عن الظَّالِمِ وَأَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشُّورَى: ٤١] قَالَ الْحَسَنُ: دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنْ شُتِمَ جَازَ أَنْ يَشْتُمَ بِمِثْلِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) بِفَتْحِ الظَّاءِ وَاللَّامِ، مَعْنَاهُ: لَكِنِ الظَّالِمَ اجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لكن يجهره من ظلم، والقراءة هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} [النساء: ١٤٨] لدعاء المظلوم، {عَلِيمًا} [النساء: ١٤٨] بِعِقَابِ الظَّالِمِ.

[١٤٩] قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} [النساء: ١٤٩] يَعْنِي: حَسَنَةً فَيَعْمَلُ بِهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَإِنْ همَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا كِتُبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْ تُخْفُوهُ} [النساء: ١٤٩] وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ: الْمَالُ، يُرِيدُ: إِنْ تُبْدُوا صَدَقَةً تُعْطُونَهَا جَهْرًا أَوْ تُخْفُوهَا فَتُعْطُوهَا سِرًّا، {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء: ١٤٩] أَيْ: عَنْ مَظْلَمةٍ، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: ١٤٩] فهو أَوْلَى بِالتَّجَاوُزِ عَنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>